تُرى .. من يكون هذا الرجل الداعي إلى ثورة جديدة والمنادي بحراك شعبيّ يعم البلاد؟!
من أيِّ شق من الأرض خرج علينا، وفي أيّ دربٍ من دروب هذه الحياة البائسة يسلك بنا؟! وإلى أي غاية من الغايات البعيدة يمضي أمامنا ونمضي خلفه؟!
أهو مجرد رجل أم واجهة لرجال؟ ومن يكون هؤلاء الرجال؟ من الذي وراءه ومن الذي فوقه؟ وما مدى قدرته هو ومن معه على المواجهة وإمكانياته على مواصلة المسير؟ وهل له رؤية ومشروع؛ فأين إذن صيغت هذه الرؤية وصنع هذا المشروع؟!
ثمّ ما هذا الذي نراه فنحار في تفسيره: الناس ينزلون للشوارع فلا تكاد ترى للداخلية خيالا أو تسمع لها ركزاً! أهذه هي داخلية السيسي أم إننا في بلد آخر غير مصر الأسيرة؟! أين الذئاب وأين الكلاب؟! لم نسمع – إلا في القليل النادر – عواء ولا نباحاً، قالوا: إنّها مؤامرة ضد السيسي وانقلاب على الانقلاب، وأذاعوا أنّها حرب تدور بين أجنحة النظام، وأشاعوا أنّ السيسي على وشك الرحيل، وتوغل البعض في التحليل وغاص آخرون في التفاصيل حتى ذكرت أسماء وجهات؛ فما الحق في هذا كله؟
أمّا نزول الناس للشوارع وهتافهم في الساحات وبعض الميادين فكان أكثر إثارة لتساؤلات أعمق أثرا؛ إذ إنّ الحراك كان يحمل الصفة وضدها في آن، فلا تكاد الحماسة تطرق مشاعرك لما تراه من حراك وما تسمعه من هتاف حتى ينتابك بعدها فتور بسبب افتقاد الزخم الثوريّ الذي يناط به تغيير، تنظر إلى وجوه الناس فتقرأ في صفحاتها آيات الشجاعة والفداء، لكنك توشك في الوقت ذاته أن تسمع دقات القلوب معبرة عن القلق والتوجس، كأنّ الناس طيور مسكينة كانت محبوسة في صناديق محكمة مظلمة، فما كادت تجد سبيلا للخروج حتى وجدت نفسها في الفضاء حائرة مرتابة؛ فما هذا؟ وما الذي يجري؟!
النزول للميادين
تساؤلات عديدة تثار على جميع المستويات؛ عقب استجابة الجماهير لدعوة الفنان والمقاول “محمد علي” بالنزول للشوارع، تساؤلات وهواجس وظنون ووسواس، اختلطت في الأذهان وتلاطمت في المجالس وعلى صفحات التواصل الاجتماعيّ، جميعُها – على اختلافها وتباينها – تلتقي على حقيقة واحدة، مفادها: أن الوضع ملتبس، وأنّ الرؤية غائمة بين سحائب البشارة وأدخنة النذارة.
ومع ذلك يكاد الجميع يجزم بأنّ الجواب على جميع هذه التساؤلات، وأن الشفاء من كل تلك الوساوس والهواجس هو شيء واحد لا بديل عنه، ألا وهو النزول للميادين في جمعة الغضب القادمة؛ لأسباب غاية في الموضوعية، ولدواعٍ ومقتضيات لا لبس فيها ولا غموض.
إنّ نزول الناس في الجمعة الماضية حدث يجعل من الجمعة القادمة يوما له ما بعده؛ فالذين نزلوا وهتفوا لم يأتوا من المريخ، والشوارع التي احتضنتهم ورفعت إلى عنان السماء هتافهم ليست في زحل أو المشترى، إنّهم مصريون وإنّها مصر، وليس فيهم أحد خرج معبرا عن نفسه ولا منافحا عن ذاته، وإنّما هو القرار الجمعيّ الذي يبادر إليه البعض فيتبعهم الكل، هذا القرار الجمعي قرار واحد؛ والمضي أو التراجع فيه قرار واحد صادر عن جهة واحدة، وهنا مكمن الرأي ومنبعه؛ إن مضينا كانت لنا، وإن تراجعنا كانت علينا؛ إن مضينا كنّا شعبا صاحب رأي وصاحب قرار، لا يثنيه رهب ولا يطويه رغب، إذا قال حيّ على الثورة لم يتردد ولم يتلعثم، سكت وطال سكوته بسبب ما يلقى من قهر وعسف، لكنه عندما واتته الفرصة انقض يغتنمها غير مبال بالعواقب؛ فعندئذ يُهاب ويُحسب له ألف حساب، وإن تراجع فقد أضاع ما بقي من هيبته، وبدد ما فضل من كرامته، واجترأ العدو عليه فأغلق عليه كل السبل.
وأيّا ما كان الداعي إلى الثورة؛ فبعد أن دقت طبولها وقعت في يد الشعب وصار هو المالك الحصريّ لها؛ فلم يعد الداعي إليها إلا بمثابة عود الثقاب الذي أشعل الحريق الهائل، فمن ذا يذكره أو يتذكره إذا اشتد أوارها واستعر لهيبها؟! ورغم أنني لا أميل للتشكيك في إخلاصه إلا أنّنا مضطرون للاستشهاد بما سلف؛ فإنَ عظمة يناير لم ينل منها انحطاط بعض الداعين إليها وانقلابهم على أعقابهم مع انقلاب السيسي على كل مكتسبات الثورة بما فيها التجربة الديمقراطية.
وأيّا ما كان الذي يدار في الكواليس؛ فها هنا بوابة للخروج من الصمت، وها هنا فرصة لكسر جدار الخوف؛ فأي عاقل يتوقف عن اغتنام الفرصة بدعوى الوقوف على ما يَدور ومعرفة ما يُدار؟! هذا مع أنّ الشعب يستطيع إذا بلغ نقطة معينة من الزخم أن يكون هو السيد المطاع، وأن ينسف كل ما يدور وما يدار، ولقد مرت سنون نضج فيها الوعي وتراكم فيها الغضب، وتبلور للثورة ألف سبب وسبب، فلماذا نستبعد أن تكون هي هذه المرة؟!
مراحل الثورات
إنّ الثورات عبر التاريخ مرت بمراحل، ولا نكاد نجد ثورة أنجزت وعدها في جولة واحدة، ولكنها جميعا تعرضت لما تعرضت له ثورتنا، ثم في النهاية كُتب لها النجاح؛ لأنّ الموجة الأولى منها غرست في نفوس الأجيال عقيدة لا تمحى، فالعقيدة موجودة، وكل مقومات وأسباب الثورة موجودة، والفرصة سانحة، فهلم إليها، فإنّ الإحجام في موضع الإقدام كالإقدام في موضع الإحجام هلكة ومضيعة.
لقد أظهرت مظاهرات يوم الجمعة الماضي أن الشعب مؤمن بالثورة إيماناً عميقا، وأنّه عاشق للحرية عشق البلابل للشدو والصقور للتحليق في علياء السماء، وأظهرت كذلك كم هو السيسي بغيضا مقيتا منبوذا؛ ففيم التردد وقد تأهلت الساحة للتمرد، وهل ينتظر الناس فقرا وقهرا أكثر مما هم فيه؟! وهل يتوقع الخلق إلا مزيدا من الضياع في ظل حكم هؤلاء الفسدة؟!
إنّ الثورة حق لنا وواجب علينا، ونحن المالكون لها والمتصرفون فيها مهما كانت هوية الداعي إليها، وإنّ الشارع – إذا انعقد المدّ الثوريّ عند قمة الزخم – لهو صاحب الكلمة؛ فلا أجنحة عندئذ ولا أفخاذ، فأشعلوها ثورة تأكل نارها كل ما يرتب في الظلام أو يحاك في سراديب الطغام، وقديما قال شاعر المعتصم أبو تمام: السيف أصدق إنباء من الكتب … في حده الحد بين الجد واللعب، فسيف الثورة العارمة يغني عن كل هذه التساؤلات وجميع تلك التوجسات.
ولنكن على يقين أنّ الله تعالى يمهل ولا يهمل، قال تعالى: (وأملي لهم إن كيدي متين) وقال في الحديث القدسي: (إنّ الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) وليحرص بعضنا على بعض، وليدافع بعضنا عن بعض، ولنكن جميعا على قلب رجل واحد: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا).