جُرثومة التطَرُّف وخطرُها على الإنسانِيّة

لسنا بحاجة إلى تعريف التطرف؛ فالإغراق في تعريف الْمُعَرَّف غُلُوٌّ وتطرُّف، ولكنّنا بحاجة إلى سحب المصطلح بعيدًا عن مساحات الاغتيال المعنويّ، فالمستمسكون بقيم الحق والعدل ليسوا متطرفين إلا في نظر الطغاة المستبدين ومَنْ حولَهم من الْمُسَوِّغين للظلم والطغيان، والمعتصمون بقيم الإسلام ومَعاقِد الشريعة لا يوصفون بالتطرف إلا في سياق الحرب على الإسلام وعلى شريعة الإسلام، والمدافعون عن الأوطان المحتلة والمقدسات المغتصبة ليسوا إرهابيين إلا في نظر الصهاينة ومن دخل في حِلْفِهم، فدائرةُ التطرف التي تَتّسعُ في أيامنا هذه لتشمل كثيرا ممن ينثرون نُعُوت التكفير والتبديع والتفسيق على رؤوس العباد، ويتحرشون باللسان والبنان والسنان؛ مستهدفين كل غادٍ ورائحٍ من خلق الله بذرائع شتى لا تنتهي، والتي تتسع كذلك لتشمل موجات الإلحاد والشذوذ والْمِثْلِيَّة والنِّسْوِيَّة وغيرها من الظواهر الخارجة عن كل حدود الاعتدال، والتي تتسع أيضا لتشمل موجات الصعود المزعج لليمين العنصريّ المتشدد في أوربا وأمريكا وإسرائيل، والتي تتسع أخيرا لتشمل الذين يبالغون في الانبطاح، ويمارسون التطويع لقيم دينهم؛ حتى تدخل قسرا تحت هيمنة القيم التي يتبناها الغالب ويقهر بها المغلوب، هذه الدائرة على اتساعها والتهامها لِفِئامٍ من الناس كثيرة وعريضة؛ تَضيقُ وتتجانَفُ عن أهل الاعتصام بِقِيَمِ الإسلام، وإن كُنَّا نَعِيبُ على بعضهم شيئًا من التشدد في المواقف، وعلى آخرين ضَعْفَهم في إدارة الاختلاف.

خطر التطرف على الإنسانية

نستطيع أن نقول ونحن على ثقة من قولنا: إنّ حاضر الإنسانية ومستقبلها في خطر عظيم؛ بسبب جرثومة التطرف هذه؛ والأحداث الكبرى التي غيرت في واقعنا المعاصر وجهَ الدنيا، وصَبَغت بالدم في أيامنا هذه وجهَ المعمورة أكبر شاهد على ذلك، وحَسْبُكَ منها دليلا على ما نقول: ذلك الذي لا يَسَعُ الأُمِّيَّ جَهْلُهُ من الطَّوَام العظام، فما وقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر إلا بعد أن تَطَرَّفَت الخطط الجهادية وخرجت بالجهاد الإسلاميّ عن خَطِّهِ الذي رسمته الشريعة، ولا جَرَّتْ أمريكا جحافلها ومِنْ خَلْفِها جحافلَ أمم الغرب والشرق، لتصب الويلات على العراق وأفغانستان؛ إلا بالتطرف في تأويل الأمن القومي الأمريكي والمخاطر التي يتعرض لها، وما وقعت الحرب التي تدور رحاها اليوم على مسرح أوكرانيا؛ إلا بسبب التطرف في نظرة أمريكا إلى الخطر الروسي، وتهديده للهيمنة الأمريكية، يقابله تطرف روسي في النظر لأوكرانيا وما حولها من الدول الضعيفة المتهافتة، واعتبار انضمامهما للناتو مهدِّدًا لأمن موسكو، أمّا ممارسات حكومة نتنياهو على مدى عقدين أو يزيد في الأرض المحتلة من قمع وتوسع في الاستيطان واقتحامات للأقصى فهو أَصْرَحُ وأَصْرَخُ مثال للتطرف الصهيوني المشتط في ممارسة الإرهاب.

بغير الموضوعية والتّجرُّد يَعْتاص الخلاص

لا مناص من الوقوع في ذلك الفخ القاتل، ولا خلاص من ذلك الخطر الماثل، إلا بأمرين يعزّ على الناس الالتزام بهما، الأول: الموضوعية في التفكير وفي اتخاذ القرارات، الثاني التجرد للحقيقة والتخلص من الأهواء، فأمّا الموضوعية فهي المنهج الذي يسلك في التفكير واتخاذ القرار سبيلا نائيا عن لوثة تقديس الأشكال، والقرآن الكريم يُعَدُّ المصدر الأول لتلقين هذا اللون من التفكير الرشيد والتعاطي السديد، وخُذْ لذلك مثلا له علاقة بطبيعة اليهود: عندما نزلت الآيات بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، أَرْجَفَتْ يهودُ بهذه المعادلات الكلامية الشكلية: إن كانت صلاتُكم السابقة إلى بيت المقدس صحيحةً فصلاتُكم اليوم إلى المسجد الحرام باطلةٌ، وإن كانت الثانيةُ هي الصحيحة فالأولى باطلة.

    وبدا لبعض الناس أنّ هذا اللون من التفكير له وجاهة، وراحوا يسألون عن الذين ماتوا من المسلمين ولم يدركوا الصلاة إلى القبلة الجديدة، فكان علاج القرآن للقضية على هذا النحو الموضوعيّ: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) أي أنّ المشارقَ والمغاربَ والجهاتِ كلَّها لله، فإذا وَجَّهَ اللهُ عبادَهُ إلى أي جهة فَتَوَجَّهوا إليها فهناك وجهُ الله وقبولُهُ للأعمال؛ فَفِيمَ هذا التحكم ولماذا هذه الشَّقاشِقُ الكلامية العقيمة؟! أمّا المؤمنون فلا يسوغ في منطق الحقّ أن يضيع الله صلاتهم من أجل إجراء شكليّ مهما كانت قيمته: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ)، وبالجملة يجب أن ينحو التفكير إلى العمق الموضوعيّ ولا يقف عند الأشكال: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) الآية، أمّا التطرف والتنطع وتقديس الشكليات فهو السفه المفضي للتطرف: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ ما ولَّاهم عن قبلتهم).

    وما أكثر السفاهات التي ترتكب على ظهر هذا الكوكب باسم الدين أو المذهب تارة، وباسم الوطن أو القوم تارة، وباسم الأمن القومي والمصالح العليا وغيرها تارات كثيرة، إلى حدّ أنك لو نظرت إلى آثار هذه السفاهات على الإنسانية، فاعتقدت بأنّ البشر لو عاشوا في هذه الدنيا شذَرًا همجًا متفرقين لكان أهون عليهم؛ لما كنت راكبا متن الشطط ولا ممتطيا ظهر التخريف والتجديف؛ لأنّ المتطرفين من الساسة ورجال الدين وغيرهم انحرفوا بالحالة الإنسانية العامّة عمّا فطرها الله عليه من الموضوعية والتقارب.

    أمّا التجرد للحقيقة والتخلص من الأهواء فهو أهم من سابقه؛ فما قامت الحروب الكبرى التي طحنت البشرية إلا بسبب أهواء الزعماء، ولم يكن للشعوب من هذه الحروب أدنى نصيب، اللّهُمّ إلا بذل الأنفس والأموال ومعها كل الآمال؛ في نَفِير وصَفِير لا ناقةَ للخلق فيه ولا بَعِير، لقد تلوثت أغلب القرارات العسكرية برغبات تصنيع السلاح وبَيْعِهِ؛ من أجل نَفْخِ حافظاتِ النقود للأثرياء من دماء الأبرياء، وتلوثت كذلك بهوس الانتخابات؛ فإن لم يكن هذا هو التطرف والإرهاب بعينه فماذا يكون؟

ميزانُ الاعتدال

والحل هنا في كتاب الله تعالى؛ فقد أنزله الله ليكون ميزانَ عدلٍ لا يَمِيد ومِعْيارَ صدقِ لا يَحِيد: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)، وبِقَدْرِ ما تقترب الإنسانية من تعاليم الإسلام تَرْشَد ويسودها الوئام، وبِقَدْرِ ما تعتدل أُمّتُنا بهذا الميزان في تفكيرها وتدبيرها وتصريفها تكون وسطًا عدلًا معيارًا للاعتدال: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ).