الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
عندما سُئِلَتْ “هاريت توبمان” الناشطة الأمريكية المناهضة للعبودية، والتي طُبِعَتْ صورتها على ورقة الدولار الأمريكي من فئة 20$ تخليدا لذكراها؛ عندما سُئلت عن الخطوة الأصعب في تحرير العبيد، أطرقت طويلا ثم أجابت في لهجة صارمة: “أن تُقنع عبداً أنّه ليس بعبد”! ومن المعلوم عنها أنّها كانت تحمل مسدساً؛ لا لتحمي به العبيد الذين حررتهم وآوتهم من سطوة السادة فقط، وإنّما – أيضاً – لتردّ به مَنْ تُسَوِّلٌ له نفسه محاولة الهرب للحاق بسيده!!
وقديما في الريف المصريّ كانوا يقُصُّون هذه الأسطورة الخيالية المعبرة: يحكون أنّ جملاً وحماراً مملوكين لأحد الفلاحين قَرَّرا يوماً الهرب من تحت سلطان هذا الفلاح القاسي، وبالفعل انطلقا في طريقهما بعد أن حملا معهما ما قَدَرا عليه من الأغراض الضرورية كبعض العلف مع شيءٍ من الماء قليل، فبينما كانا في الطريق وقف الحمار فجأة وصاح بصاحبه مذعورا: “آخ”؛ لقد نسيت شيئا هاماً من أغراضي؛ فالتفت إليه الجمل متسائلا: ماذا عسى أن يكون ذلك الشيء الهام؟ فقال الحمار: لقد نسيت “القَيْد”!!
إنّ القيد قبل أن يتمثل في قُفْلٍ حديديّ يحيط باليدين أو الرجلين أو في غُلّ من الأغلال يلتف حول العنق أو – حتى – في عراقيل وعقابيل توضع للسائرين في سبيل من سبل الفلاح والنجاح لتعوق تقدمهم أو لتحول دون وصولهم لأهدافهم؛ هو قبل ذلك كله طَوْق يلتفّ حول النفس، ويطوق العقل، ويلقي بكلكله على القلب والحسّ والشعور؛ فلا يملك المرء القدرة الذاتية على التحرر ولو فتحت له الآفاق وخلص من جميع القيدود وكافّة الأغلاق!
ذلك لأنّ التحرُّرَ إنّما يكون للنفس والعقل والقلب قبل كل شيء، ولأنّ التحرر الذاتيّ الداخليّ هو نقطة الانطلاق الحقيقية للحرية الكاملة بكل معانيها وبكافة صورها، ولأنّه ليس بالإمكان قلب المسار وعكسه إلا بقدر ضئيل لا يتحقق إلا على مدى طويل، حيث تأخذ النفوس في التحرر الذاتيّ شيئا فشيئا بممارسة الحريات الممنوحة للأفراد، ويبقى أنّ الفرق بين الأحرار الذين انبعثت الحرية من ذواتهم وبين الأحرار الذين اكتسبوها بالممارسة كالفرق بين المؤمنين السابقين وبين المؤلفة قلوبهم من المسلمين.
لذلك وجدنا العبيد الأفذاذ الذين أسلموا كبلال بن رباح رضي الله عنه قد تحرروا أولا في ذوات أنفسهم، وحطموا في داخل قلوبهم قيود العبودية؛ فاكتسبوا القوة على مواجهة الجاهلية بسطوتها واكتسبوا الصبر الأسطوريّ الذي خرّت أمامه عزائم السادة القساة العتاة، إنّه لم يكن صبر الأجساد على التعذيب وحسب، وإنّما كان قبل ذلك وفوق ذلك صبر القلوب والأنفس التي كبرت بالإيمان واستعلت بالتوحيد وتحررت حرية كاملة بإدراكها العميق وتسليمها التام لكلمة “لا إله إلا الله”.
إنّ كلمة الإخلاص هي المنصة الحقيقية لمسيرة الخلاص، هي المنطلق الوحيد الآمن إلى الحرية الحقيقية المأمونة؛ لذلك تَحَرَّرَ الناس بالإسلام من كل العبوديات الباطلة، ليس فقط من العبودية للأصنام والأوثان والطواطم والنار، لقد حرر القرآن الخلق من الأوهام والظنون ومن الآبائية المقيتة والتبعية الذميمة، وحررهم من العوائق النفسية بما في ذلك الانبهار بما عليه المشركون والكفار، وحررهم من الشعور القاتل بالضعف والهوان والصغار، حرر القرآن القلوب والعقول والأنفس والأرواح، ولا تزال آياته غضة طرية كأنّها تتنزل اليوم: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (الأنعام: 116) (وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) (النجم: 26) (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) (البقرة: 170) (لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الحجر: 88) (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)) (آل عمران: 196-197) (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) (محمد: 35) (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 139) (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) (الأعراف: 3)، وغيرها من الآيات التي انتشرت في أقطار القرآن انتشارا واسعا وملحوظا ولافتا للنظر.
إنّ مشكلتنا – برغم كل ما حل بنا – ليست فيما نزل بديارنا وأوطاننا من قهر وعسف واستبداد واستعباد، بقدر ما هي فيما يسيطر على قلوبنا وعقولنا ونفوسنا ومشاعرنا وكل ما هو من مكونات الذوات الداخلية لنا من تَكَيُّف مع القيد واستمراء للذل، إنّ أزمتنا الحقيقية إنّما تتمثل قبل كل شيء آخر في القيود النفسية والعوائق الداخلية، إنّنا قوم أُورِثْنا الهوان والوهن من زمن بعيد، ربما يعود إلى بدايات العصر الحديث الذي شهد نهوض أوربا وتخلف العالم الإسلاميّ؛ حيث أورثتنا الهزيمة العسكرية والاقتصادية والسياسية والتقنية هزيمة نفسية أحاطت بالأجيال إحاطة الثلوج بالتلال والجبال، وصرنا مبهورين مشدودين إلى كل ما هو غربيّ حتى ولو صار عندهم متروكا مهجورا كقطع الخردة.
إنّ أغلب دعاة الحرية من بني قومي يرزحون في أغلال العبودية ويغرقون في مسنتنقعها إلى الأذقان، إنّهم – وإن كانوا يقضون ليلهم ونهارهم في سبّ الظالمين ولعن المتسلطين – بحاجة إلى من يحررهم وينقذهم من وحل العبودية التي غرقوا فيها إلى النخاع، إنّهم لا يتصورون الخلاص لبلادنا إلا في منحة يجود بها السيد الكبير الصامت على الدوام إلا من تصريحات مبتورة تأتي كل أعوام، تأتي كسحابة صيف عابرة لا تجود بقطرة ولا تمنح إلا الظنون والأوهام.
إنّنا يا معشر المنادين بالحرية مستعبدون لهذا السيد الكبير الذي ننشد الحرية على بابه، وما هذه الأنظمة التي تحكمنا إلا سياطا يجلدنا بها وقيودا يضعها في أرجلنا وأغلالا يطوق بها أعناقنا، وما هؤلاء الحكام الذين يمارسون القهر والعسف والتنكيل والتكبيل إلا أُجَرَاءَ عنده يستعملهم في تأمين الخراج، وكبح جماح الشعوب بوضع اللجام في فمها على الدوام، هذه حقيقة لم يعد يجهلها إلا من يعيش خارج هذا الكوكب الأرضي في عالم الخيال ومساكن الخرف والخبال؛ ففيمَ هذه المسارعة إلى كل كلمة يلقيها مِنْ فمه المنتن زعيم هنا أو رئيس هناك؟!!
لا يمانع أحد في أهمية المتابعة للمستجدات والاستفادة من المتغيرات والتفاعل مع الواقعات، لكنّ الذي نفعله ليس هذا، إنّ الذي نفعله هو أنّنا نبني مشروعنا كله على انتظار ما يسمح به السيد الكبير، ونقف صفرا من أيّ رؤية تتجاوز هذا الانتظار، بل نقف لكل من يملك طرحا جديدا مفيدا موقف قريش من الصابئة؛ لا لشيء إلا لأنّه يمثل خروجاً على “هبل” إنّها – بصورة أو بأخرى – وثنية وصنمية، بل وجاهلية نعيشها ونحياها ونحن الدعاة إلى الحرية.
إنّنا كرجال سياسة وتغيير وثورة ليس لدينا رؤية ولا مشروع، فضلا عن خطة عملية واضحة المعالم، بل لا أبالغ إذا قلت إنّ مجرد الأهداف ليست واضحة بشكل نستطيع قياسها بموجبه، هذه هي الحقيقة الْمُرّة التي اضطر للإفصاح عنها، فمن رآني مبالغاً أو متجنيا فلا أطالبه إلا بأن يسأل كل من ينشط في مناهضة الانقلاب العسكريّ عن الهدف؛ فإن لم يقرأ على وجهه أمارات الارتباك، ويلمس في أدائه وجوابه علامات الارتجال؛ فأنا أحل له عرضي فليرمه بما شاء من ألوان الشتم والسباب.
إنّ الذي لا يملك منّا أن يدفع عن وجهه الذباب يرى أن “مشروعه!” يهدف إلى كسر الانقلاب ودحر الانقلاب وإسقاط الانقلاب، ولو أنّ قائلا – بعد أن يبلع ريقه ويمضغ الخجل والوجل بين أضراسه – قال: إنّ ما جرى ليس انقلابا بالمعنى الصحيح، وإنّما هو بمثابة استعادة النظام الضالع في الظلم الإجرام لوضعه الطبيعيّ، بمدد من النظام الدوليّ، وإنّنا لن نستطيع إسقاطه في عجالة أو بقصف مقالة ومن خلال إطلالة؛ فتعالوا نتعامل بواقعية شديدة، فنضغط على النظام بوسائل الضغط “الخشنة” حتى يعطينا بدلا من القفا العريض القاتم وجها تلمع فيه أمارات الاستعداد للتفاهم، فنتفاوض؛ لا للعودة إلى الحكم والدولة وإنّما للعودة إلى المجتمع والدعوة، ثم نتحرك ونكمل المسار وفق مشروع ورؤية؛ لو أنّ احدا قال هذا لرماه “الأحرار” بتهم تتراوح بين التخوين وبين الاتهام بالإرهاب! (يُتْبَعُ).