حق التظاهر من منظور شرعي

لا أعتقد – ابتداء – أنّ ما يتوجه الناس إليه بفطرتهم ويتحركون نحوه بوازع من الحق القديم يمكن أن نجد صعوبة في البحث عن أصل له في الخطاب الإسلاميّ؛ كيف والإسلام دين الفطرة والحنيفية السمحة؟! لذلك لا يُعَدُّ مصادرة على الحقيقة ولا مبادرة إلى النتيجة أن أُبَكّر بالإعلان عمّا أراه أمراً بدهياً؛ فأقول بغير تردد ولا تلعثم: إنّ حق الشعوب في التعبير عن رأيها والتغيير لمن فسد من أولياء أمرها أقوى في الشريعة وأثبت في الدين من أن نسعى لالتماس الأدلة عليه، ولا يحملنا على البيان خفاء في هذه الحقيقة أو غموض، إنّما يضطرنا لذلك ما نراه على الساحة من عبث يتسربل بجمل ممزقة من الفقه المقلوب.

    وإذا كانت الضرورة العلمية تدعونا إلى تعريف المظاهرات؛ فإنّنا يمكن أن نشتق لها من واقع أمرها تعريفا يتفق مع طبيعتها؛ فنقول: هي “سلوك جماهيري يهدف إلى توصيل رسالة جماعية إلى الحكام، عن طريق التجمع في مكان عام والتعاون في إظهار رغبة موحدة” وبتعبير أكثر قربا من الفقه السياسي: هي “صورة من صور الحسبة السياسية، تنفذ بأسلوب جماعي، عن طريق اجتماع طوائف من الشعب في مكان أو أماكن عامّة؛ للتعاون على إبداء الرأي وإظهار المعارضة للنظام الحاكم”.

الانسجام مع الأصل اللغوي

    ومع كون التعريف متفقاً مع الواقع العمليّ نجده كذلك منسجما مع الأصل اللغوي لكلمة “مظاهرة”([1])؛ فكلمة المظاهرة والتظاهر وردت في اللغة بمعنى التعاون، ففي الصحاح للجوهري: التظاهر التعاون والمظاهرة المعاونة، وفى لسان العرب: ظاهر بعضهم بعضاً: أعان بعضهم بعضاً، وللمظاهرة والتظاهر صلة بمعاني الإعلان والعلو، ففي المعجم الوسيط: ظهر الشيء ظهوراً: تبين وبرز بعد الخفاء، وظهر على الحائط: علاه، وعلى عدوه غلبه، ويؤيد ذلك قول الله تعالى: ﴿وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ﴾[التحريم: 4]، تظاهرا: أي تتظاهرا، والتظاهر هو التعاون والتعاضد([2]).

    والمظاهرات إمّا أن تكون للتعبير، وإمّا أن تكون للتغيير، فإن كانت للتعبير فهي من قبيل الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة للحكام، وإن كانت للتغيير فهي من قبيل ممارسة الأمة لحقها في التولية والعزل ومراقبة الحاكم ومحاسبته؛ إذ هي صاحبة السلطان ومصدر السلطات، وكلا الأمرين جائزٌ، بل واجب كفائي، فالمسألة هنا لا تقف عند حد تقرير الحق، بل تتجاوزه إلى إثبات حكم الوجوب، والأمر عندما يجتمع فيه الوصفان: الواجب والحق يكون شديد الرسوخ قوي الثبوت، وهذا الموجز نبسطه كما يلي:

    أولاً: القول بجواز المظاهرات كوسيلة للحسبة السياسية وأداة للتعبير عن الرأي ينبني على أصلين: الأول: أن النصيحة للحكام واجبة على الأمة، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب كفائي لا ينعتق المسلمون من عهدته إلا بقيام من يكفي به، وأن الحسبة السياسية حق للأمة باعتبارها صاحبة السلطان، وواجب عليها باعتبارها مسئولة أمام الله تعالى عن محاسبة الحكام ومراقبتهم وتقويمهم إذا اعوجوا، والثاني: أن المظاهرات وسيلة من الوسائل وأداة من الأدوات، إن خلت من المخالفات الشرعية ولم تصدم أصلاً من أصول الدين ولا حكماً من أحكامه، فليس هناك مسوغ لحرمان الأمة من استخدامها في ممارسة حقها والقيام بواجبها، وبخاصة إذا استدعى الزمان ذلك.

    فأما الأصل الأول: فإن الأدلـة عليه أكثر من أن تحصى: منها: قول الله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[آل عمران: 104]، وقوله تعالى ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾[آل عمران: 110]، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي، إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ، وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ، يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ، حَبَّةُ خَرْدَلٍ»([3])، إضافة للإجماع، قال الإمام النووي: “وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الكتاب والسنة وإجماع الأمة”([4]).

    وأما الأصل الثاني: فإن المظاهرات ليست من الشعائر التعبدية حتى نتوقف في العمل بها حتى يأتي ما يدل على مشروعيتها، وإنما هي من العادات، والأصل في العادات الالتفات إلى ما فيها من معانٍ، فإن كانت موافقة للشريعة بمعنى أنه ليس فيها ما يخالفها ولا يضادها، وكان فيها مصلحة راجحة، فلا مسوغ للقول بتحريمها، وإن كانت مضادة أو مخالفة للشريعة أو كانت مفسدتها أرجح من مصلحتها فلا تردد في القول بتحريمها، قال الإمام الشاطبي: (وأما أن الأصل في العادات الالتفات إلى المعاني فَلِأُمور، أولها: الاستقراء، فإنا وجدنا الشارع قاصداً لمصالح العباد، والأحكام العادية تدور معه حيثما دار فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة فإذا كان فيه مصلحة جاز… والثاني أن الشارع توسع في بيان العلل والحكم في تشريع باب العادات… وأكثر ما علل فيها اتباع المعاني… والثالث أن الالتفات إلى المعاني قد كان معلوماً في الفترات، واعتمد عليه العقلاء حتى جرت بذلك مصالحهم وأعملوا كلياتها على الجملة فاطردت لهم… إلا أنهم قصروا في جملة من التفاصيل فجاءت الشريعة لتتمم مكارم الأخلاق فدل على أن المشروعات في هذا الباب جاءت متممة لجريان التفاصيل في العادات على أصولها المعهودات، ومن هنا أقرت هذه الشريعة جملة من الأحكام التي جرت في الجاهلية كالدية والقسامة والاجتماع يوم العروبة وهى الجمعة للوعظ والتذكير والقراض وكسوة الكعبة وأشباه ذلك مما كان عند أهل الجاهلية محموداً وما كان من محاسن العوائد ومكارم الأخلاق التي تقبلها العقول…)([5]).

القيام الجماعي

    والتاريخ الإسلامي حافل منذ العصور الأولي بشواهد القيام الجماعي لإنكار المنكر، والعجب كل العجب ممن ينكر هذا مع استفاضته، ويدعى أن السلف لم يفعلوا شيئًا منه، من ذلك ما ذكره ابن الجوزي في المنتظم قال: (واجتمع في يوم الخميس رابع عشر المحرم خلق كثيرمن الحربية، والنصيرية، وشارع دار الرقيق، وباب البصرة، والقلائين، ونهر طابق، بعد أن أغلقوا دكاكينهم، وقصدوا دار الخلافة وبين أيديهم الدعاة والقراء وهم يلعنون أهل الكرخ- أي منكرين لبدعة إظهار شتم الصحابة التي وقعت من أهل الكرخ- واجتمعوا وازدحموا على باب الغربة، وتكلموا من غير تحفظ في القول فراسلهم الخليفة ببعض الخدم أننا قد أنكرنا ما أنكرتم، وتقدمنا بأن لا يقع معاودة، فانصرفوا)([6])، وأمثال ذلك كثير.

    فهذه المظاهرات – ومثلها الاعتصامات والإضرابات وسائر وسائل الإنكار الجماعى والمعارضة الشعبية الجماعية – تعتبر من الوسائل ومن الآليات الفنية التي لا يشترط فيها أن يكون الشرع قد ورد بها، ولكن يشترط فيها فقط أن تحقق المصلحة وألا تصادم أصلاً شرعياً أو حكماً شرعياً؛ وعليه فإن هذه الوسائل والآليات التي تندرج في العادات إنما يلتفت إلى ما فيها من المعاني، وهي تتغير – بحسب الظروف والأحوال وبحسب الملابسات والأوضاع – من زمان لآخر؛ فلا يصح إطلاق القول بمنعها، وإنما هي تخضع إلى قواعد السياسة الشرعية، ومن شروط جوازها ألا تكون مشتملة على مخالفة شرعية؛ لأنها إن اشتملت على مخالفة شرعية افتقدت شرط المشروعية الأول والأهم، ومن الشروط كذلك ألا تتضمن شعارات منافية للعقدية.

    ثانيا: القول بجواز المظاهرات إن كانت للتغيير، والأصل فيه أنّ الأمّة صاحبة الأمر والسلطان، فإمّا أن تمارسه من خلال ممثليها أهل الحل والعقد، وإمّا أن تمارسه بنفسها عند غيابهم أو قعودهم عن هذا الواجب، وهذا أصل كبير في الفقه السياسي الإسلامي، فبرغم أن الإسلام دين ودولة، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مات ولم يستخلف ولم يوص لأحد بالأمر من بعده، مع توفر الدواعي وانتفاء الموانع؛ وذلك لتمارس الأمة سلطانها في التولية لمن تراه خيرا لها، وقد فعلت الأمة ذلك في عهد الراشدين الذين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع سنتهم في السياسة، وذلك في حديث العرباض بن سارية وغيره من الاحاديث.

  وعندما قال أحد الناس « لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ، لَقَدْ بَايَعْتُ فُلَانًا، فَوَاللَّهِ مَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ إِلَّا فَلْتَةً فَتَمَّتْ، فَغَضِبَ عُمَرُ، ثُمَّ قَالَ : إِنِّي إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَقَائِمٌ الْعَشِيَّةَ فِي النَّاسِ فَمُحَذِّرُهُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ أُمُورَهُمْ….» وخطب خطبة طويلة ختمها بقوله: « مَنْ بَايَعَ رَجُلًا عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يُبَايَعُ هُوَ : وَلَا الَّذِي بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلَا»([7]).

    وليس هذا من قبيل الفتنة ولا من قبيل البغي أو الخروج على الحكام؛ لسبب غاية في البساطة هو أنّ الواقع الذي تتنزل عليه تلك الأحكام ليس موجوداً في حياتنا السياسية من حيث الأصل؛ فهؤلاء الذين يتظاهر الشعب ضدهم ويطالب برحيلهم ليسوا حكاماً بالمعنى الشرعيّ الذي تتنزل عليه الأحكام، والقاصي والداني يعرف كيف جاءوا وإلى أين يسيرون، فهم جاءوا بوسائل غير شرعية، ويسيرون بالبلاد والعباد إلى غايات ونهايات غر شرعية أيضاً، ومن ثم فإن انتحال أي مصطلح من تلك المصطلحات والزج به في منظومة هي برمتها خارج دائرة الأحكام يعد تزويرا للشريعة وتزييفاً لأحكامها.

    هذا ليعلم الشعب المصري وكافة شعوب الأمّة أن التظاهر ضد الأنظمة الدخيلة العميلة والثورة عليها حق وواجب، وهذا من صميم الإسلام وصلب الشريعة، بشرط أن نحرص على البلاد والعباد، وان نتعاون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان، وأن نكون على يقظة ممن يكيدون للأمة في الظلام، والسلام. 


([1]) انظر: الصحاح للجوهرى (2/629) ولسان العرب 6/37 مادة ظهر والمعجم الوسيط (ص 578) مادة ظهر.

([2]) انظر فتح القدير للشوكانى 4 /333.

([3]) رواه مسلم برقم “74” (ج 1ص108)

([4]) شرح النووى على مسلم (2 / 22).

([5]) الموافقات (2 / 305 – 307).

([6]) المنتظم لابن الجوزى (16/94) .

([7]) رواه البخاري برقم”6358″ (ج11ص5126)