بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
بالأمس القريب اسْتَعَرَت الحربُ واشْتَدّ أُوارُها على شيخ الأزهر؛ بسبب تصريح أدلى به في لقاء مُتَلْفَز عن المقصد من قول الله تعالى في سورة النساء: (واضربوهنَّ)، وكيف أنّ إباحة الضرب هنا لم تأت إلا بعد استنفاذ وسائل التقويم الأخرى، ولم تُشرع – كوسيلة تأديب لا تعذيب – إلا في مواجهة النشوز الذي لا معنى له إلا الاستعلاء والارتفاع من الزوجة على زوجها صاحب القوامة، ولم يدرك شيخ الأزهر يومها أنّ هذه الحرب المستعرة المسعورة قُصد منها الزلزلة والخلخلة وهزّ الثقة؛ تمهيدا لسلسلة من التغييرات التي ستجري على يد شيخ الأزهر نفسه ورجال الدين من حوله؛ فلم يلبث الرجل إلا قليلا حتى خرج علينا بهذه البدعة: “حق الكدّ والسعاية”!
ماذا يراد للمرأة؟؟ وما الذي يراد منها؟! وما الدور الجديد الذي يريدون من المرأة أن تقوم به في المجتمع وفي لَبِنَاتِه الأولية (الأُسَر والبيوت)؟! ماذا وراء الأكمة؟! هذه تساؤلات من الطبيعيّ أن تَثُور وتُثَار في بلد تستظل بنظام؛ إنْ لم يكن هناك دليل على فساده إلا هذا الإعلام الرديء المهترئ فكفى به دليلا، ومن الطبيعيّ كذلك عندما يهجر الإعلام القضايا الكبرى التي تهدد مصير البلاد على كل المستويات وجميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والأمنية والبيئية والصحية والتعليمية والخدمية؛ ليجري في الأزقة المظلمة وراء أحداث اجتماعية جزئية، وينبش في التربة النكدة عن قضايا ماتت وجَيَّفَتْ من أمد بعيد؛ من الطبيعيّ جدا أن تتوجس الأمّة من هذا السلوك المنحرف، لكن ليس طبيعيا أن يغفل شيخ الأزهر عن هذا التلاعب ليُسحب بنعومة وليونة إلى الفخّ الفاتك والشَّرَك القاتل!!
إنّ رجلا على رأس مؤسسة بحجم الأزهر الشريف لا تستخفه حملات مفضوحة كهذه إلا لتكون دليلا على أنّ هناك في الأزهر العريق آلافا غيره أولى وأجدر منه بهذا المنصب الجليل الخطير، وعلى أنّه مهما بدا للبسطاء أنّه صاحب مواقف؛ لم يستطع أن يملأ ولو قدرا ضئيلا من مكانه الذي رفعه إليه النظام الذي احتضنه في الماضي ولا يزال يحتضنه برغم كا ما يبدو، هنا وفي أمثال هذه المواقف تظهر معادن الزعماء والقادة، تظهر مثلما ظهرت من قبل عندما تساقط “شباب الأزهر” على أيدي قناصة الإجرام في حادث المنصة، وعندما وقعت “فتيات الأزهر” في الأسر، ينكل بهن علوج العسكر في داخل الحرم الجامعيّ الأزهريّ؛ لنرى شيخ الأزهر راكبا قطار التجاهل (وعامل من بنها)!!
لم يرد في كتاب ولا سنة ما يسمونه ب”حق الكد والسعاية”، ولم يأت به شرع من أيّ مصدر من مصادر التشريع الإسلاميّ المعروفة، ولم يقل أحد من العلماء من أيّ مذهب من مذاهب أهل القبلة سنيهم أو شيعيهم أو إباضيهم أو زيديهم أو ظاهريهم بأنّ للزوجة حق في الشريعة اسمه حق الكدّ والسعاية، إنْ هي إلا فتوى يُختلف في ثبوتها عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حالة خاصة عارضة استثنائية، وقد يكون أحد من متأخري المذاهب أفتى بها في واقعة مشابهة استثناء من الأصل، وشتان بين الفتوى التي تكون جزئية متغيرة، وبين الحكم الذي يكون عامّا مستقرا، يصلح للتقنين، ويُقضى به في المحاكم أبدا، لا على وجه الاستثناء العارض الذي تكون المرافعة فيه بدعوى لا علاقة لها بحقوق الزوجية.
لا خلاف في أنّ للزوجة زمّة مالية مستقلة، ولا نزاع في أنّها حرة التصرف في مالها كله دون حجر من الزوج عليها، وما ذهب إليه مالك وأحمد في رواية عنه من أنّ المرأة ليس لها التبرع بأكثر من الثلث إلا بإذن الزوج مخالف للأصول ومردود بالأدلة التي ساقها الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة، وهذا حقها لا يملك أحد نزعه منها، وهو من الحقوق الكثيرة التي تثبت للمرأة بأصل الفطرة والتي نزعتها منها الجاهليات المتوالية وردها إليها الإسلام العظيم، ولا مجال هنا لاستعراض صور التكريم والإنصاف التي تمتعت بها المراة في شريعة الله تبارك وتعالى.
فإذا كان للمرأة مال – سواء أتت به من بيت أبيها أو دخل عليها بميراث أو اكتساب – فهي صاحبة القرار في هذا المال لا يشاركها زوج ولا غيره، فإن طابت نفسها عن شيء منه للزوج تملكه وتموله حلال “زلالا” هنيئا مريئا، وإن استحفظت به أو ببعضه لنفسها لم يكن للزوج ولا لأهله ولا لورثته الحق في التصرف فيه، وأساليب الحفظ والتوثيق في الشريعة كافية ووافية، وهي كذلك في القانون المدنيّ، والدعوى فيه دعوى مالية “مدنية” لا علاقة لها بدعاوى الأسرة وقضائها، وليس ثَمّ حاجة إلى ابتداع قانون خاص نسميه قانون (حق الكدّ والسعاية)؛ لأنّ وفاء التشريع الإسلامي بكل هذه الأمور لا يحتاج إلى نقاش أو جدال من أجل إثباته أو التدليل عليه.
هذا .. أمّا الحالة العرفية المستقرة في المجتمع المصريّ خاصة وفي كثير من المجتمعات العربية كافّة فهي سعيُ الزوجين وكَدُّهما من أجل تحقيق قدر ولو قليل من الحياة الكريمة لهما ولأولادهما، ومن أجل التعاون في مواجهة تحديات الحياة وصعوباتها، تلك التحديات والصعوبات التي تسببت فيها الأنظمة التي تريد اليوم أن تدس أنفها الكئيب في شأن الأسرة المصرية، وخروج المرأة للعمل لتساعد زوجها وتوفر الخبز لأسرتها تضحية من جانين لا من جانب واحد، فكما تضحي هي يضحي الزوج أيضا بكثير من حظه في زوجته وحقوقه عليها، بل ويضطر كثيرا للتعاون معها في كثير من اختصاصاتها من أجل تسيير وتيسير مركب الأسرة ليمضي آمنا وسط أدغال الموج الهادر في محيط هذه الحياة الموغلة في الخطر.
وغالبا ما يتراضيا على ذلك، وغالبا ما يقيما هذه العلاقة على أنّهما شخص واحد وذمة واحدة، أمّا الاستثناء القليل النادر فهو حالات تطالب فيها المراة بأن تحتفظ بحقها أو براتبها، فإن وافق الزوج على ذلك وثَّقا بوسائل التوثيق المتاحة، وما أكثرها! أو وَثَّق كل منهما صاحبَه وَوَثِقَ في دينه وأمانته، وإن لم يوافق قعدت في بيتها وأراحت واستراحت، فإن اضطر إلى عملها توصل معها إلى اتفاق، وإلا كان قرارها في البيت حلا ناجعا وحاجزا مانعا من تجدد الخلاف، وعمل المرأة بغير إذن زوجها لا خلاف في منعه.
أمّا التدخل السافر الفج في شأن الأسرة باسم الدفاع عن حقوق المرأة فهو تفخيخ للأسرة وتلغيم لبنيانها، فإنّ تقنين فتوى كهذه وإنشاء عقود بين الزوجين مسبقة يؤدي أولا إلى قتل الاستعداد للتضامن والتكافل داخل الأسرة، كما يؤدي إلى بهوت العلاقات وجفافها، فالأسرة ليست في الأصل سوقا ولا حانوتا ولا شركة استثمار، وإن وقع بين الزوجين استثمار مشترك فهو استثناء من الأصل، ومع ذلك له ما يحميه في الشريعة من أحكام وكذلك في القانون المدنيّ، فليس من الرشد تستيف القوانين وتعقيد الحياة بها، إذْ المتفق عليه بين الحكماء جميعا أن القوننة إذا جاوزت حدها عقدت الحياة ثم لم تفلح في كبح جماح المخالفات.
ولست أدري ما هو الفرق بين الرجل والمرأة في حياتنا من حيث الظلم الواقع على كل منهما، إنّ المرأة في مجتمعنا لا تشتكي من الرجل، وإنّ الرجل لا يشتكي من المرأة، وليس لأحد تجاه الآخر قضية، إنّما القضية هي قضية المجتمع كله رجالا ونساء تجاه الظلم الواقع على الجميع من الأنظمة، والذي يعزى إليه كل ما يتعرض له الرجال والنساء من عنت في هذه الحياة، لقد أطاحت الأنظمة المستبدة الغاشمة بآمال الشعوب ووأدت أحلام الشباب والفتيات، ثم انثنت تدس أنفها في حياة الأسرة التي يحاول فيها الزوج والزوجة أن يتراحما من أجل جبر الكسور والتشوهات التي أحلها النظام بجسد الحياة.
فيا أيها الشيخ المثير للدهشة بمواقفه التي يتردد فيها بين صواب في أمور هامشية وخطأ في قضايا أصلية؛ لا تدع الأيام تنزلق بك إلى قبرك قبل أن تستدرك ما يمكن أن تستدركه مما لا يمكن أن يغفره لك التاريخ من مواقف فاصلة، كذاك الموقف الذي اصطففت فيه أنت وتواضروس وجلال مرة مع الانقلاب الذي أطاح بثورات الشعوب العربية بأسرها، أدعوك إلى أن تراجع نفسك، وألا تغتر بتلك (الهوجة) التي تثور حولك من بسطاء الناس الذين طال تشوفهم إلى كلمة أو موقف يشمون منه رائحة الحق والعدل، هدانا اله وإياك إلى ما فيه صلاح الأمة وهلاك الأنظمة المستبدة وزوال النظام العالمي المجرم الذي أنت جزء لا يتجزا من منظومته، والسلام.