لم أتفاجَأْ، لكنّني شعرت بالخذلان، لم أتفاجأ لأنّني دائمًا كنتُ منك على وجَل، ولم يتهيأ لقلبي يومًا أنْ يضع فيك ثقةً من نوع الثقة التي تُوضَع في الأئمة؛ فما أنت بالذي يرتقي إلى مستوى عباءة شيخ الأزهر فضلًا عن عمامته، وأين أنت من (جاد الحق) الذي كان آخر الفضلاء من شيوخ الأزهر وأقلَّهم فضلًا؟ غير أنَّ حكم الزمان فقط هو الذي أضفى عليك بريقًا ولمعانًا في محيط أظلَمَ بغياب الشموس خلف جدران السجون وفي ظلمات القبور، أجَلْ .. لم أتفاجأ، ولكنّني شعرت بالخذلان لأنّني أمَّلْتُ فيك بعض الخير بسبب بعض المواقف التي تُحسب لك، والتي لم تسعد بالعظمة إلا لأنّ العظمةَ نفسَها قد تقزَّمت في هذا الزمان الذي يحكم فيه مصرَ قزمٌ ضئيلٌ يحاكي زئير السباع بخشرمة الضباع.
والحقيقة أنك لم تخذل إلا نفسك ولم تخدع إلا شخصك؛ لأنّ تهنئتك لرئيسك الذي قهر الشعب وأفقره وأضاع حاضره ومستقبله، بذكرى ثورة مضادة وانقلاب دمويّ ردَّ الربيع العربيّ كله على أعقابه، وردّ أحلام الجيل كلّها في أجواف الحالمين بها، هذه التهنئة التي جاءت مترعة بالولاء والوفاء لعدو الله الذي رأيته أنت وغيرُك يحارب دين الله ويحاصر أهل الإسلام لصالح أعداء الله، هذه التهنئة البئيسة جاءت في وقت بلغ فيه السخط الشعبيّ منتهاه؛ لأنّ الظلم الواقع عليه – والذي لا يدخل في أدنى اهتماماتك – قد بلغ أيضًا منتهاه، ولو كنت من هذا الشعب ما وسعك أن تخذله بتمجيد ما كان سببًا في نحسِهِ وَوَكْسِه، لكنك لم تقف مع الشعب يومًا؛ لأنّك ببساطة شديدة لست جزءًا من الشعب المظلوم المهضوم، وإنّما أنت جزء لا يتجزأ من النظام الظالم الفاجر، وهذا هو الخذلان الحقيقيّ الذي أوقعت نفسك فيه.
فيا ليتك سكتّ؛ فكم هو السكوت نعمةً لكثير من الخلق أنت في القلب منهم! أمّا تصريحك وبيانك فهو نعمة من الله تعالى على أمثالنا من المغفلين الذين لا يستفيقون ولا يستيقظون إلا على وقع الزلازل والأعاصير، فكم من مرة تدهسنا وتنزو علينا هذه اللعبة المراوغة المركبة من ألواح الختل والخداع؛ حيث يعطى بعض الأشخاص مساحة يبرزون فيها بمواقف أشبه ما تكون في دويّها بمدفع الإفطار، الذي لا يأخذ حظّه من التعظيم إلا من واقع السكون المخيم على أجواء الصائمين، ثمّ بعد أن ينفذ إلى القلوب وينشب في قعرها نتفاجأ بالحقيقة المرّة؛ التي هي بالنسبة له واقع طبيعيٌّ مستمر ودائم.
لست يا سيدي مخطئًا بل نحن المخطئون، ولست متناقضًا بل نحن المتناقضون، أنت متسق مع نفسك تمام الاتساق، حاضرك ومستقبلك سواء، أمّا نحن فمضطربون لا مذهب لنا ولا مشرب، كيف نسينا ما تصرّ اليوم على أن تذكرنا به، بل كيف نتعجب من تهنئتك لرئيسك على ذكرى حدث كنت فيه الرفيق اللصيق، ألست أنت من بارك الانقلاب ووقف مع الإنقلابيين في مشهد الانقلاب بصحبة تواضرس وجلال مرّة؛ لتضفوا عليه شرعية دينية طقوسية؟ فلماذا نحن متعجبون مشدوهون؟! أولى بنا أن يضرب كل واحد منّا رأسه بأقدم نعل في قدمه، لأنّنا لم نقم ببناء الثقة على أصولها التي تبنى عليها، والثقة قاعدة الاقتداء والاهتداء والاتباع والانصياع، إذا تذبذبت واضطربت لا يمكن أن يقر للمجتمع قرار.
بالأمس دعَمْتَ الثورة المضادة ضد الثورة الحقيقية، وشَرْعَنْتَ للانقلاب الذي وقع على الشرعية، وليس للشعوب في زماننا هذا – بل وفي كل زمان – ما تتقوّى به على الطغيان – بعد اعتمادها على الله – أفضل من هاتين القوتين الدافعتين لكل خير وصلاح: الثورة والشرعية، فمن كان معهما كان حبيب الشعوب ومن كان ضدهما فهو عدوّ الشعوب، غير أنّ الناس نسوا لك ما قارفته من الإثم الكبير عندما رأوك تقف ضدّ بعض ما يخطط له الانقلاب، وعلى الرغم من أنَّ هذه المواقف القليلة جزء من عملك العاديّ الذي لا تكون بدونه إلا دخيلًا على المنصب صنفها الناس في قائمة المناقب، لكنّك أبيت إلا أن توقظهم وتحفّز مداركهم ليروا الأمور على حقيقتها، وينتهوا عن التمجيد غير الحميد.
لقد أدرك الناس أنّ هذه المواقف ليست سوى فرقعات لا أثر لها إلا ما تثيره الفرقعات في الآذان؛ وإلا فدلوني على عمل واحد قام به شيخ الأزهر تجاه ما يجري في غزة سوى البيانات والتصريحات، إنّني لعلى يقين جازم لا يدنو من تخومه شك أو ريب أنّ شيخ الأزهر لو دعا الشعب المصريّ إلى مسيرة تنطلق من الجامع الأزهر متوجهة إلى غزة لما تخلف عنه من الرجال والنساء إلا من حبسه العذر القاهر، ولكنّه لم يفعل ولن يفعل؛ لأنّه – على الرغم من حصانة منصبه – عاجز، فما قيمة ما يقوم به مما يكفي للقيام به صغار طلاب العلم في المؤسسة العريقة التي يجثم على صدرها من لدن حكم مبارك الهالك.
فيا أيها المسلمون هذا أوان المفاصلة الحاسمة، وما عاد يجدي الترقيع والتسنيد، فلا تنتظروا ممن لا ينظر إليكم خيرًا ولا نصرًا، ولا تعولوا على هؤلاء العابثين الذين يعيثون في أرض الله فسادًا وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعًا، واستعينوا بالله على ما أنتم قادمون عليه مما فرضه الله عليكم، ولسوف يأتي نصر الله، ولسوف يذهب السيسي إلى الجحيم ومعه لك من دعمه ووقف معه، والله غالب على أمره.