لم أكن -رغم مشاركتي في اعتصام رابعة- راضيا عن الأداء ولا موافقا على الطريقة والأسلوب، ولقد كنت كثير الاعتراض إلى حد الإزعاج على طريقة الإخوان في التعاطي مع تطورات الأحداث، كما أنني طالبت مرارا وأعربت عن طلبي بأساليب عديدة؛ طالبت بتغيير الأداء وبضرورة التحرك من رابعة واعتماد آليات في الضغط على الانقلاب ومؤسساته، والقاصي والداني يعلم عني ذلك، وكثير من قيادات رابعة أحياء يرزقون وفي فضاءات الحرية يحلقون؛ فمن أراد منهم أن يكذبني فليبرز لي؛ فها هنا لا يحجر على متحدث ولا يكسر بنان ولا يقطع لسان.
وكنت، ولازلت، أرى أن للتغيير ولمواجهة البطش والاستبداد آليات غير الاعتصام والتظاهر لابد من الأخذ بها وإلا لن يحدث تغيير، ولن يندفع عن الناس خطر البطش ولا ضرر الاستبداد، كما كنت ولا زلت أرى أن الخطأ الكبير المتمثل في الإعراض عن تلك الآليات كان سببا جوهريا في وقوع الكارثة على هذا النحو وفي فشل المشروع كله.
هذه رؤيتي ورؤية الكثيرين ممن قابلتهم وتحاورت معهم في رابعة، وقد عرضت على الاخوان ذلك -باعتبارهم هم من كان يتخذ القرار على الحقيقة- فلم يقبلوا ذلك ولم يلتفتوا إليه، وقد يخالفني في هذا الاجتهاد من يخالفني ولا تثريب عليّ ولا عليه؛ إذ لا تثريب على مخالف في ما هو من قبيل الاجتهاد.
وعلى الطرف الآخر كانت هناك أصوات لعقلاء موضوعيين وواقعيين إلى قدر أراه زائدا عن الحد، كانوا ينادون بالدخول في الواقع الجديد والاستسلام له وعدم الوقوف أمام العاصفة، وقد اختلفت معهم وقتها في وجهة النظر تلك، ولا تثريب عليّ ولا عليهم في ذلك؛ لذات السبب.
وكان الرأي الغالب والسائد عند الكبار والشباب وعند جميع الكيانات إلا ما ندر أن نعتصم بالميادين، وأن نستمر صامدين إلى أن يأذن الله بنصر أو شهادة أو فرج على أي وجه؛ باعتبارها نازلة عمياء وفتنة هوجاء وكربة ليس لها من دون الله كاشفة، وهذا اجتهاد خالفه الطرفان الأقل عددا والأخفض صوتا، ولا تثريب على أحد؛ إذ إنها مسألة اجتهادية في وضع حرج غاب فيه دور علماء الأمة وأهل الحل والعقد فيها.
وجميع هذه الاجتهادات لا تقلل من شأن أصحابها ولا تضعف من مصداقيتهم، لكن الذي يقلل من شأن الجميع ويضعهم تحت طائل المسئولية هو الاستمرار غير المبرر في الإعراض عن المراجعة العامة، والشورى الشاملة، والوحدة الرشيدة، مع أن هذا إن وقع سيكون سببا في محو الذنب على فرض أن الخطأ في الاجتهاد كان خطيئة وإثما، وإن لم يقع سيكون سببا في أن يبوء الجميع بالإثم حتى ولو كان اجتهادهم الأول مغفورا.
أما الذي لا يسوغ ولا يجوز في هذا السياق كله هو محاولات تحميل أطراف في معسكر المعارضة دماء الشهداء؛ بحجة أنهم غرروا بهم وزيّنوا لهم مواجهة السلاح بصدور عارية، وهي محاولات صدرت قبل ذلك من جهات مدخلية مدخولة؛ أرادت بذلك أن تبرئ ساحة السفاح، والآن تصدر من جهات معتدلة وأشخاص معتدلين.
وأحسب أنه لولا الأداء السيئ للمعارضة في الخارج – وفي القلب منها الإخوان المسلمون – ما صدر عنهم ذلك ولا بدا؛ ولعل هذا مما يقوي عندي الشعور بفساد المنطلق وإن صلحت النوايا.
والواقع الذي ننساه دائما أن جدوى الاعتصامات والمظاهرات، وأن مواجهة الباطل بصدور عارية كان خدعة كبيرة سقط فيها الجميع كبارا وصغارا، وأن الخامس والعشرين من يناير أورثت الجميع هذا الإيمان الخيالي، والذي يغفل عنه الكثيرون أن هذه الأساليب صارت بعد يناير أعرافا مستقرة بلغت من استقرارها أن أنست الناس كثيرا من ماضيهم وجعلتهم يعيشون حالة جديدة مولودة من رحم دين جديد بزغ فجره في ميدان التحرير؛ فكان الذهاب إلى رابعة والاستمرار فيه تصرفا تلقائيا من الجميع كبارا وصغارا، وكان الخروج من هذا الصندوق الكبير نشازا في الرأي وشذوذا في الاجتهاد.
إن النظر إلى رابعة على أنها فخ خطط له الكبار ووقع فيه الصغار نظر مجاوز للحقيقة متجاوز للواقع، فالواقع أن الكبار والصغار كانوا جميعا على مستوى واحد من المخاطرة بأنفسهم وأولادهم؛ لذلك لم يسلم من القتل والأسر والإصابة قيادات كبيرة وأبناء وبنات قيادات كبيرة، وحتى بالنظر إلى مسئولية الكبار عن اتخاذ القرار بما يحمي الأتباع فإن المسألة ليست على هذا النحو الذي يتم تناوله الآن؛ لأن أحدا لا يستطيع أن يجزم بإمكانية استجابة الناس لأي أمر يصدر لها بترك الميدان، لقد كان التجمع تجمعا أمميا واسع التمثيل عريض الشرائح متنوع الرؤى لا يجمعه إلا شيء واحد هو الصمود إلى إحدى الحسنيين، وقد يقال إن هذا بحد ذاته خطأ ويسأل عنه الكبار، أقول نعم ولكنها حصاد مرحلة برمتها.
إن تناول الأمر على هذا النحو يوقع في محذورين، الأول: فتح الباب لتبرئة السفاحين أو على الأقل تخفيف العبء عنهم؛ فعما قريب يقال: (قتلهم من أخرجهم)، والثاني: إلصاق التهم بالعمل الإسلامي كله تجاه عامة الشعب؛ حيث إن الشهداء في النهاية أبناء الشعب اتبعوا قيادات الجماعات، وهذان خطران كبيران وفيهما ظلم كبير ومن ورائهما تزوير خطير، إضافة إلى إيقاع الجميع في معضلات أكبر ضررا وأوسع غررا، تبدأ بالتشكيك في جدوى الثورات وتنتهي بالتشكيك في جدوى التغيير من حيث الأصل.
إن المسئول عن دماء الشهداء فقط هم عصبة الانقلاب وطغمة العسكر ومن عاونهم وحرضهم وأفتاهم، وإن الثورات على مدى والتاريخ كله قدمت الشهداء وتأخر النصر ثم جاء على طول انتظار؛ فلا وجه لذلك الجلد في غير ظهر الجاني.
إننا جميعا نعيش حالة من (الفضفضة) السلبية بسبب تأخر النصر وضياع الأمل وافتقاد البوصلة والحل ليس بهذا التهارش وإنما بأحد أمرين:
الأول: التوحد واستعادة المسار وتصحيحه، والثاني: الانطلاق بمن بقي من المخلصين ووضع خطة في الحراك رشيدة الخطى وبعيدة المدى، هذا هو الدوران بعجلة الذهن للأمام بما ينبت الأفكار.. أما سوى ذلك فهو دوران (على الفاضي) والله أعلم.