ذكريات برلمانية (2)

الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..

كنت قد وضعت كُتُباً في السياسة الشرعية، ونشرت بعضها قبل الثورة بعام تقريباً، وهي: “الأحكام الشرعية للنوازل السياسية”، و”النظرية العام لنظام الحكم في الإسلام”، و”حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية وما أثير عليها من شبهات”، وتناولت في الكتاب الأول منها قضايا استجدت في واقعنا السياسيّ المعاصر، منها قضية: “حكم ممارسة العمل النيابيّ في ظل أنظمة وضعية لا تحكم بالشريعة”، وكان الرأي الذي رجحته بعد عرض الآراء المتقابلة هو أنّ هذه القضية لا يقال فيها بالحِلّ المطلق ولا بالحرمة المطلقة، وإنّما هي من القضايا التي يختلف الحكم فيها باختلاف الأحوال، وتخضع لقاعدة: “لا ينكر اختلاف الأحكام باختلاف الأزمان” فإن غلبت مصلحة الممارسة لهذا العمل على مفاسده جاز، وإلا لم يجز، فهي قضية من القضايا الخاضعة لقواعد السياسة الشرعية وللموازنة بين المصالح والمفاسد.

    وقد كانت هذه هي قناعتي منذ زمن؛ لذلك كنت انطلق من هذه القناعة في الأحداث المختلفة، فقمت بدعم جماعة الإخوان المسلمين في انتخابات مجلس الشعب لعام 2005م لِمَا غلب على الظنّ أنّ هنالك مصالح كبيرة يمكن أن تتحقق في هذه الدورة، فلما جاءت انتخابات 2010م وتبين أنّ المصالح مَوْهومة وغير مَظْنونة ظنّا راجحاً انصرفت عنها ولم أشارك في دعم أحد فيها، وكل هذا كان يجري على وجه الاجتهاد الآنيّ، وكل إنسان يخطئ ويصيب، والله وحده أعلم بالصواب، فلما قامت الثورة وتغيرت الأوضاع وغلب على ظنّ الجميع أنّ المصالح المبتغاة من المشاركة البرلمانية صارت مَظْنونةً ظنّاً راجحاً ربما يقترب من اليقين؛ شاركنا مع غيرنا من الإسلاميين وغيرهم.

    لكن ما شأن هؤلاء؟! ألم يكونوا من قبل يعتقدون بحرمة هذا العمل لكونه ينافي العقيدة؟! فما الذي تغير فجعله لا ينافي العقيدة؟! ألم تكن تنظيرات قيادات الدعوة السلفية بالإسكندرية تدور في أغلبها حول قضية عقدية هي قضية التشريع؟! ألم يقولوا من قبل إنّ البرلمان يقوم بالتشريع وهذا شرك يجب اجتنابه؟! وكنّا نشاركهم الشطر الأول من الحقيقة، لكن لم نقل بأنّ وجوب الاجتناب مستمر على كل حال، فما بالهم قد سارعوا إلى تأسيس حزب النور ثم انطلقوا به يجوبون جميع الدوائر؛ ليحرزوا المركز الثاني بعد حزب الحرية والعدالة؟! أهو اجتهاد جديد في ضوء القاعدة الشهيرة: “لا ينكر اختلاف الأحكام باختلاف الأزمان”؟ قد قالوا هذا في صدد تبريرهم وردهم على التساؤلات العديدة التي ثارت في كل المناسبات وعلامات التعجب والاندهاش التي ملأت الآفاق، ولئن كانت ردودهم قد راقت للبعض فإنّها لم تَرُقْ لي؛ لأنّ القاعدة الآنفة لا تعمل في المساحة التي كان فقههم للمسألة يعمل فيها، وهي مساحة الأحكام الثابتة المنوطة بالعقيدة.

   لكن لنتجاوز هذه العقبة، ولنحسن الظنّ بالناس، ولنجتهد كل يوم وكل لحظة في استدعاء أحسن المحامل التي يمكن أن نحمل عليها فعالهم؛ أليسوا في النهاية دعاة وأهل شريعة؟ ألم يتخرج من مدرستهم كثير ممن نثق بهم ولا يزالون أهل ثقة إلى يومنا هذا؟ فلنقدم حسن الظنّ إذاً، وَلْنَقُلْ: إنّ السيل المتدفق من الدعم الماديّ الذي أغناهم بعد فاقة انعطف عليهم من فاعلي خير – وما أكثرهم – قد شجعهم الخطاب المنمق عن تطبيق الشريعة؛ فأهل الخير كثر ولم ينحصروا في ربيعةَ أو مُضَر، ولنقل كذلك: إنّ اضطراب رأيهم في الثورة وزعم البعض منهم في أول الأمر أنّها خروج على الحاكم لا يجوز؛ لنقل: إنّه كان اجتهاداً خاطئاً؛ نتج عن إعراضهم عن فقه الواقع، وها هم الآن يمجدون في الثورة ويترحمون على شهدائها، ولنخفف من غلواء النقد تجاه تعمدهم التوسع في الترشيح وإصرارهم على ملء كل الدوائر التي ملأها الإخوان المسلمون؛ فالجميع يعرف الصراع التقليدي بين الفريقين في الدعوة سابقاً فليس عجيبا أن ينتقل إلى السياسة لاحقاً، ولنطمئن فالقوم قد أكثروا من الحديث عن فقه الاختلاف والائتلاف! وقد يجمع الله الشتيتين بعدما .. يظنان كل الظن ألا تلاقيا.

     غير أنّ إحسان الظنّ شيء وتقدير الواقع شيء مختلف، فالواقع أنّ النضج السياسي والاجتماعيّ للمجتمع المصريّ كان غاية في الضعف؛ وأكبر دليل على ذلك نتائج الانتخابات البرلمانية، فلئن كانت هذه النتائج بالنسبة لجماعة الإخوان المسلمين وبعض النواب المحترمين قد جاءت – بنسبة ما – قريبةً من الواقع فإنّها جاءت فيما عدا ذلك بعيدة كل البعد عن حال الاعتدال؛ فكما اغتر الكثيرون بفقاعات مدنية خاوية اغتر آخرون بظواهر بشرية مقحمة على الشريعة وعلى الدعوة، ولو فرضنا في بعضهم صدقا في الانتساب للدعوة والشريعة فليسوا بسالمين من الخرف السياسي والدجل الإعلاميّ، هكذا كان تقديري وشعوري الذي استمد من توالي الأحداث قوته وثباته واستمراره؛ إلى حدّ أنّني وجدت في ذلك سلوى عندما وقعت فاجعة حل البرلمان.

    ها نحن ندخل البرلمان بعدما نجحنا في المعركة الانتخابية ونجح معنا رجال نوقن أنّهم من الضحالة والضآلة بالقدر الذي لا يصلحون معه للتمثيل في مجلس قرية أو حيّ، وها هم يقفزون قبلنا إلى الأضواء بممارسة السخافات حسب قاعدة: “خالفْ تُعرفْ” والتي بدأت في اليوم الأول بالقيود التي أقحموها على القسم جهرا، والتي أثارت ضجة برلمانية وإعلامية كبيرة؛ وكانت استهلالة تبشر بمسيرة ملؤها الادعاء والمزايدة وعدم تقدير المسئولية، إضافةً إلى ضعف الفقه مع نزعة ظاهرية طافية.

    كل هذا رغم خطورته وخطورة دلالاته لا يساوي شيئاً بالنسبة للظرف المحيط بميلاد البرلمان، فقد كانت التجمعات الشبابية غير راضية عن الميلاد ولا عمّا تلاه، وهي فئة رغم قلة عددها مؤثرة؛ لأكثر من سبب، فهي من جهة تمثل الشريحة الأكثر ظهورا وبروزاً في ثورة يناير، ومن جهة أخرى لها في الرأي العام وفي وسائل الإعلام حضور وتأثير، إضافة إلى حفاوة المجتمع الدولي بكثير من رموزها، ولا يملك أحد أن يحكم حكماً عامّاً بتضليلهم أو تخوينهم، فبرغم أنّ الأحداث التالية أوقعت البعض منهم في فخ الانقلاب على الثورة وعلى مكتسباتها إلا أنّ الكثيرين منهم كانوا مخلصين للثورة وللبلد بغض النظر عن موقفهم من قناعات التيار الإسلاميّ، وهذه مسألة دقيقة لا يصح للكبار أن يهملوها؛ لذلك كنت في كثير من المناسبات أنادي باحتضان الشباب احتضاناً يقابله الإعراض عن المجرمين المنسوبين بصورة أو بأخرى للنظام البائد أو للدولة العميقة؛ وذلك انطلاقاً من قول الله تعالى في سورة الحجر: (لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الحجر 88)، وأمثالها من الآيات، وكنت أقول في وقت مبكر جداً أثناء احتدام الثورة وقبل سقوط مبارك: إنّ من لا ترضون دينه من هؤلاء الشباب قد التقوا معنا في نصف المساحة – على أقل تقدير – وهي مساحة الكفر بالطاغوت؛ فهلا وقفتم معهم فيها ثم وسَّعتم القدر المشترك في ظرف تفيض فيه الفطرة بالمعاني الإنسانية التي جاء الإسلام بتعظيم قدرها؟! قال تعالى: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)) (البقرة 256)، ففي هذه الآية جاء الكفر بالطاغوت نصف الاستمساك بالعروة الوثقى، التي هي في أفضل تفسير لها كلمة: (لا إله إلا الله)، كنت أقول هذا على سبيل التَّنَزُّل في الحكم عليهم، وإلا فإنني أظنّ فيهم على وجه العموم خيرا كثيرا، ولاسيما “ألترس”.

    وقد تعرض البرلمان فترة طويلة في أول انعقاد له لحصار متكرر من شباب “ألترس” وغيرهم، إلى حدّ أنّنا كنّا ندخل إلى الجلسات متسللين من مداخل جانبية كأنّنا مطلوبين بثأر، وكان لهذا الوضع دلالاته، صحيح أنّ بعض هؤلاء كان مدفوعاً من جهات ليست بريئة، وأنّ المجلس العسكري والشرطة التابعة له تعمدوا ترك هذا الوضع الشائن لينغص على البرلمانيين عملهم ويكدر عليهم عيشهم ويقلل في أعين الخلق من أقدارهم ويجريء السفهاء المتسكعين عليهم، لكنّ هذا لا ينفي الرسالة المقابلة التي كان البعض بل الكثيرون يحملونها إلينا، ومفادها: أما وإنكم قد فزتم بالبرلمان فأرونا كيف سيعوضنا البرلمان عن الميدان؟ والحق يقال أنّهم – فيما رأيت – كانوا يحاصرون البرلمان دون أن يتعرضوا لأحد بأذى أو عدوان.

    ها نحن ندخل البرلمان ونمارس العمل البرلمانيّ وفي أعناقنا هذا التحدي: كيف سيحقق البرلمان أحلام الميدان؟ كيف سيكمل برلمان الثورة مشوار الثورة؟

      نحن لا ننازع في أنّ عمل البرلمان عمل سياسيٌّ، وأنّ العمل السياسيّ شيء والعمل الثوريّ شيء مختلف، فالثورة بكل ممارساتها خروج على كل القوانين والأعراف والدساتير واللوائح، الثورة صوت الشعب الهادر، صوت الشعب الذي منه تصدر القوانين – حسب قواعد الديمقراطية – فالكلمة لها لا للقوانين والدساتير، أمّا العمل السياسيّ فهو عمل منظم تحت مظلة دستور وفي ظلال قوانين، ومن هنا نشأت العقدة: كيف يحقق البرلمان أحلام الثورة وهو مؤسسة سياسية محكومة بقونين وإعلان دستوري؟

    لكنّها عقدة مصنوعة ومختلقة، ونحن من صنعها وشد خيوطها؛ لأنّنا نَسينا – أو أُنْسينا – أنّ هذا البرلمان أتى بعد ثورة، وأنّه المؤسسة الوحيدة في البلاد التي لها شرعية أصلية غير استثنائية، وأنّ كل ما عداها ليس له أدنى شرعية – اللهم إلا على سبيل الاستثناء الذي دعت إليه الضرورة – والضرورة تقدر بقدرها؛ فما كان ينبغي أن يأخذ المجلس العسكريّ كل هذا الدور؛ ليدير البلاد وكأنّه الرئيس المنتخب من القاعدة الواسعة، ويمارس من الشرعية والصلاحية ما يربوا على دور البرلمان! فإذا ما أضيف لذلك أنّه كان يحتكر جميع أدوات الإكراه الماديّ، بما في ذلك الشرطة والمخابرات، وبما في ذلك القضاء الذي يتسنم ذروته المحكمة الدستورية تلك العجوز عجوز السوء؛ فإنّ دور البرلمان الذي كان يسمى برلمان الثورة يكون هزيلا مخيباً لكل الآمال، وكذلك كان!     ومن اللحظة الأولى كنت أشعر شعورا واضحا بَيِّنًا بأنّنا نعيش تمثيلية سخيفة، وإن كنت لم أتخيل أنّ عمرها لن يجاوز الستة أشهر؛ لِتَنْقَضَّ المحكمة الدستورية وتنسف التجربة بحلوها ومرها، لكن ما الذي جرى في هذه الأشهر الستة؟ هذا ما ينبغي التعرض له في المقالات القادمة، فنسأل الله السداد.