ما إن اسقر بنا المقام في البرلمان حتى داهمتنا داهية دهياء، كأنّها كانت معنا على موعد، أو كأنّ “اللهو الخفي” أو ما كان يُسمى بالطرف الثالث ينتظر قيام البرلمان ليبدأ في هدمه ونقض عراه بهذه الواقعة، فبينما نحن في طريق عودتنا إلى بيوتنا ودوائرنا بعد أسبوع عمل متواصل؛ إذْ بالأنباء تتوالى كأنّها غيوم تتدافع ثم تتراكم؛ فيزداد الجو بتراكمها سواداً وإظلاماً؛ لقد وقعت مجزرةٌ لجماهير الأهلي في استاد بورسعيد، مجزرة يبدو في ملامحها الأولية أنّها مؤامرة مدبرة، وتبدو على وجه الحادثة بصمات المجرمين الضالعين في الإجرام، وكانت العادة قد جرت في الإعلام وفي الرأي العام بتسمية هذه الأصابع الخفية بالطرف الثالث أو باللهو الخفيّ، وما كان ثَمَّ شيءٌ من ذلك قَطُّ، إنّما الحقيقة هي كما نطق بها النائب الفذّ والثائر البطل محمد البلتاجي، عندما وقف في البرلمان وصاح بصوت عال: إنّ المجلس العسكريّ ومعه المخابرات العسكرية هو بعينه الطرف الثالث واللهو الخفيّ.
وقد صدق الرجل، وإنّه لمن أهل الصدق قولا وعملا، بينما المجلس – كهيئة سياسية – يرى أنّه لا ينبغي له أن يتبنى صراحة قولا كهذا، وقد نتفهم هذا منه في بداية الأمر وفي الخطاب الدبلوماسي، أمّا أن ينطلق البرلمان في عمله وتصديه للنازلة من منطلق الحفاظ على سلامة العلاقة مع المجلس العسكريّ ومؤسساته فهذا ما لا يمكن أن يتفهمه أحد عرف الفرق بين الحق والباطل أو عرف – حتى – أن بين الحق والباطل فرقاً واضحاً وخطا فاصلاً، ولقد نجح البرلمان في طيّ هذه الصفحة على عجل عندما شكل لجنة للتحقيق، وانطلقت اللجنة (الموقرة!) لتبحث في ظلمة الليل عن مجرمين قتلوا في وضح النهار؛ فراحت تلتمس الأدلة عبر سؤال من لا يعطي من الأجوبة إلا كما يريد القاتل السفاح؛ وطويت القصة، أعنى قصة التحقيقات؛ لتبقى سُبَّةً ملصقة في وجه البرلمان الضعيف المرتعش.
لم أكن أتمتع بما يتمتع به الكثيرون من أعضاء البرلمان بصفة (المناكفة) ورفع الصوت، ولم أكن أحسن خطف الكلمة بالحيل والأساليب الملتوية، لكنني مع ذلك استطعت أخذ الكلمة مرات عديدة في الجلسة العامة، وفي إحدى المداخلات قلت معلقاً على أزمة البنزين والغاز: “إنّ هذه الأزمات التي تفتعل من أجل إحراج البرلمان أمام الشعب لا علاج لها ما دمنا نمارس الجلد لحكومة نعلم جميعاً أنّها لا تحكم، ولن يتسنَّ لنا الوقوف على الحقيقة حتى نسائل المجلس العسكريّ الذي يقبض على أزمة الحكم في البلاد” وعندما جلست التفت حولي عن عمد لألتمس انطباع الناس فشعرت بتوجس وإيحاش، فقلت لجاري وهو من الحرية والعدالة: هل قلت خطأً؟ فهزّ كتفيه وقال باستهزاء: أنت عبرت عن رأيك.
لم تكن الدولة العميقة بريئةً من جرائم كثيرة ارتكبت على أرض الوطن، إلا أنّها ما كان لها أن تجرؤ على ذلك كله إلا بمساعدة المجلس العسكري وأجهزته الأمنية، بل إنّ العسكري وسائر الأجهزة الأمنية في القلب من الدولة العميقة؛ فلا يغرنك رميهم بالاتهامات هنا وهناك ليصرفوا الأنظار عن المجرم الحقيقيّ القابع في العباسية والمدجج بجميع الأسلحة التي اشتراها من قوت الشعب، أزمات السولار والبنزين والغاز والانفلات الأمني والجرائم والبلطجة، كل هذه الأزمات كانوا يختلقونها ويفتعلونها بمعاونة الخليج وبعض القوى الإقليمية، ثم ينسبونها إلى متهم هلاميّ غير محدد المعالم اسمه دولة مبارك العميقة، أليسوا هم دولة مبارك العميقة؟ أليس طنطاوي والسيسي وغيرهما هم أقطابها وأعمدتها؟!
كان البرلمان عاجزاً عجزاً كاملاً؛ لأنّه اختار لنفسه طريقا يسلمه إلى العجز، فهل كان هو بذاته جزءاً من المشكلة وركنا من أركان الأزمة؟ أم إنّه كان ضحية قرارات واستراتيجيات وتوجهات أفضت إلى وضعه في موضع العاجز الفاشل؟ الذي أميل إليه أنّ الأمر بين هذا وذاك؛ فالتبكير بالمسار السياسيّ – وإن كان اجتهادا على نحو ما – يمثل رأس المنعطف الذي قلب المعادلة وحول موازين القوة؛ لأنّه عجّل بإنهاء الحالة الثورية قبل القضاء على قوى الشر والفساد أو إضعافها على أقل تقدير، فانطفأت جذوة الثورة وبردت حرارتها وتفرقت وتمزقت فصائلها، وصارت شدتهم – التي اجتمعت إبَّان الثورة على عدوهم – صارت على أنفسهم، وتحول المجلس العسكري من مطلوب إلى طالب ومن متهم إلى حاكم، وبتعبير البعض: “تدحرجت الثورة لتسكن بكل مكتسباتها في حجر العسكر”.
وليس البرلمان إلا ثمرة من ثمرات هذه الاستراتيجيات ومحطة من محطات هذا المسار، وليس القائمون عليه والواضعون لسياساته إلا أولئك الذين وضعوا من المبتدأ الاستراتيجية العامّة وحددوا المسار من المبدأ إلى المنتهى؛ فكيف ننتظر أن يكون البرلمان استثناء من تيار عام من الفكر والفهم والتنظير والتأطير والممارسات والتكتيكات؟! إنّه حلقة في سلسلة، ودرجة في سلم، ولكنه – للأسف الشديد – سلم هابط لا يعرف إلى الصعود سبيلا، فهذا هو وضعه الطبيعيّ المنتظر.
ومع ذلك كان بالإمكان استدراك الأوضاع، وتدارك بعض ما فات؛ ومهما يكن من أمر فالبرلمان هو المؤسسة السياسية الوحيدة التي تمثل الشعب المصريّ، والبلاد قريبة عهد بثورة وتغيير، بل إنّه كان بالإمكان تدارك كل ما مضى بعد نجاح الرئيس مرسي وتوليه الرئاسة، لأنّ الشرعية بكل ثقلها مع قوم يملكون قاعدة عريضة من الشباب وقاعدة أوسع وأعرض من المحبين والمتعاطفين والراغبين في الإصلاح، وهذان عنصران لا ينقصهما إلا رؤية سديدة وقيادة رشيدة؛ ليتحقق الخروج بالأمة من النفق، ولو كان بكلفة، لكنها مهما بلغت لن تساوي عشر معشار ما وقع بالأمة بعد ذلك جراء التردد والتلعثم.
لأول مرة في حياتي أَتَوَارَى من الوَرَى، ولأول مرة في حياتي أضطر للصلاة في بيتي هاجراً مسجدي المتاخم لبيتي، ولأول مرة في حياتي أشعر بالضآلة أمام الناس الذين كنت من قبل أمشي بينهم كالطاووس يتفاخر الأكابر منهم بصحبتي رغم مستواي المعيشيّ المتوسط، كل هذا بسبب أنّنا عجزنا عن صنع شيء سواء على المستوى التشريعي والرقابي، أو على المستوى الخدميّ، ولقد كنّا نتعرض للعنت الشديد من التنفيذيين الذين تعمدوا ألا يقضوا لنا حاجة؛ رغبة منهم في إفشالنا، ولا نملك لهم حسابا ولا عقابا؛ لأنّ زمامهم في قبضة المجلس العسكري وحكومته التي تأتمر بأمره وتنتهي بنهيه وتدور معه حيث دار.
أيّ حياة هذه التي أَسْلَمَنَا إليها البرلمان؟ تلك كانت صرخة بيتي وأسرتي، وكنت آمرهم بالصبر وأعدهم بالفرج، فقد كنّا ننتظر اكتمال المسار بمجيء رئيس يمثل الشعب ودستور يعبر عن إرادته، وحكومة نابعة من الشرعية التي ننتظر اكتمال عناصرها، ووقتها يسهل الانتصار على العسكري وإنهاء دوره من الحياة السياسية، وعندها يعود (الجيش!) إلى ثكناته، وتعود الحياة إلى طبيعتها، وينطلق قطار الإصلاح في طريقه رويدا رويداً، ولم نكن ندري أنّنا تأخرنا كثيرا في حساب العواقب وأنّ عدونا قد سبقنا إلى ترتيب الأوراق وفق ما يخطط ويريد!
هكذا كان الأمر يجري على وجه العموم، وإن كان هناك بعض الأفراد الأفذاذ الذين نجحوا في توجيه رسائل قوية للحكومة والمجلس العسكري والإعلام وللشعب كذلك، كان من هؤلاء الأفذاذ النائب محمد العمدة، الذي كان معنا عضوا في اللجنة التشريعية، فتولى منصب وكيل اللجنة التشريعية، أمّا رئيسها فكان المستشار الخضيري، والحق أنّه كان يستحق أن يكون رئيسا للجنة، لكن سن الخضيري ومنزلته القضائية شفعا له، أمّا من جهة الكفاءة فالعمدة كان في هذا الميدان عمدة؛ لخبرته الطويلة في العمل النيابيّ ولوظيفة المحاماة التي أكسبته قدرة على المحاججة والمناظرة، لكن الأهم من ذلك كله هو اعتدال مزاجه وحسن خلقه وسلامة قلبه وامتلاكه كثيرا من صفات الزعامة الوطنية الصادقة.
كثيراً ما كان المجلس العسكريّ يوفد العضو اللواء ممدوح شاهين، ذلك الزئبقيّ الذي يتقن التلون والنفاق، فكان يستفز البعض ويستغفل البعض، أمّا الشخص الذي كان منتبها لألاعيبه متيقظا لحملاته اللولبية مع شجاعة ممزوجة بأناة وثقة فهو النائب محمد العمدة، ومعلوم تماماً أنّ اللجنة التشريعية هي أخطر اللجان، وكان المجلس العسكريّ يأمل في تمرير بعض القوانين التي تسبغ على تصرفاته شرعية، وكان من هذه القوانين قوانين متعلقة بالقضاء العسكريّ.