الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
لم تمُتْ ولن تموت؛ ليس لأنّنا نحيي ذكراها كل عام، وإنّما لأنّها وأمثالها من الأحداث العظام تنغرس في الضمير الإنسانيّ وتمد جذورها في أعماقه، وتظل مع مر العصور وكرّ الدهور تثمر وتنتج شجى يتجدد ولا يتبدد؛ لذلك تستدعيك الذكرى أكثر مما تستدعيها، وتملي عليك ما تشاء من المعاني والقيم والمفاهيم بحسب طاقة التقبل عندك وسعة الإدراك لديك، وبقدر ما تملك أنت من شفافية روح ويقظة قلب ورقة مشاعر ودقة إدراك تفيض عليك وتغدق بالعطايا والمنح إليك.
تأملْ وارقبْ! بمجرد أن تمرّ الذكرى على خاطرك تنفتح عليك رابعة بكل ما فيها، وتأتي إليك وتدنو منك؛ فإذا أنت أمام مشهد مزدحم بالذكريات التي تموج وتتدافع كأنّها تتنافس وتتنازع شرف الظهور والحضور، كما كنّا نفعل على منصتها المجيدة، فهذا مشهد صلاة التراويح المهيبة الجليلة وهذه الملايين قد اصطفت قلوبها في صلاة كصلاة الْمُوَدِّعِ لا ينتظر الداخل فيها أن يعود منها إلى دنياه أبداً، ما أروع صوت القارئ! وما أجلّ السكون الذي يخيم على المكان والخشوع الذي يجلل الأحياء ويظلل الأشياء!
وهذا مشهد المسيرات الضخمة المجلجلة، التي تنبثق من الميدان انبثاق ألسنة اللهب من الشمس العملاقة، من هؤلاء العظماء الذين باعوا أنفسهم لله فلا يخشون ظَلُوما ولا يهابون غشوماً؟! أيّ قلوب هذه التي من قوة إيمانها وكثرة ما يجيش فيها من مشاعر تعاظمت وتفاخمت حتى صار كل امرئ من أصحاب هذه القلوب سابحاً بجناحيه في فضاء قلبه وسماء نفسه، أيّ معان وأيّ قيم تلك التي صارت في لحظة من عمر الزمان غذاء للقلوب ودواء للأرواح.
وهذه منصة رابعة تتزين بصور الإبداع كما تتزين صفحة السماء في الليلة الظلماء بما يسطع فيها من كواكب ونجوم، انظر إليها وقد اتسعت لكل الأطياف على كثرتها؛ فإذا بالأفكار والمعاني تتحدر إليها من كل صوب ثم تتجمع لتسير في اتجاه واحد واضح المسار، كأنّها جداول تنحدر بالماء من التلال والهضاب لترفد النهر العظيم الدافق، فهذا شيخ يرتل بصوت شجي، وهؤلاء أطفال يتغنون بأجمل الألحان، وهذا فقيه يفتي ويعلم، أو داعية يرشد ويوجه، أو سياسيّ أو إعلاميّ أو حقوقيّ أو ناشط في أيّ مجال من المجالات الحية النابضة، تقطر ألسنتهم حقاً وصدقاً وخيراً وبرّاً، كأنّهم من هذه المعاني الراقية خلقوا!
أمّا الشباب فما أروعهم! لم أجد لهم في التاريخ الذي نقرأ صفحاته ونقلب أوراقه نظير إلا فيمن صحبوا الأنبياء وجاهدوا مع الأئمة الأولياء، كأنهم يوم خلقوا ادخروا في قدر الله المكنون لهذه اللحظة الباهرة، ليعلموا الجيل كيف يكون الفداء والتضحية بالنفس في زمان تهافت الناس فيه على الحياة، ثم يمضون راشدين إلى جوار ربهم، لقد أحيوا سنة حمزة وعلي والزبير ومصعب بن عمير، أحيوا سنتهم في التنافس على نيل الشهادة وعلى تحمل مسئولية المواجهة مع الباطل.
وأثناء كتابة المقال ورد الخبر بوفاة الدكتور عصام العريان شهيداً؛ وهنا تكاثرت الهموم واستعجم القلم!!