لن يَنسى هذا الجيل “رابعة”، ولن تُمحى من ذاكرته؛ لأنّها – لمن عايشها – لا تُنسى ولا تُمحى، وحَدَثٌ هذه طبيعتُهُ من شأنه أن يكون له دور فاعل في بناء عقيدة الجيل وفي رسم خريطة آماله وطموحاته، والأمة الواعية الرشيدة هي التي تحسن استثمار مثل هذه الأحداث؛ لِإِحْداث تحولات كبرى وصناعة طفرات وثّابة في مسيرة التغيير، لكن حالة الإحباط العارضة تقف حاجزاً دون الإدراك العميق المؤثر، هذه الجمل تتسلسل منطقياً بما لا يجعل للشك إلى خلخلتها وفصم عراها مساغاً ولا مسلكا، ولعلنا في هذا المقال نمضي مع هذه الجمل في تسلسلها وترابطها؛ للخروج بخطة عملية متماسكة.
إنّ في حياة كل أمة أحداثاً محفورة في ذاكرتها، تمر عليها السنون كمرور عربات القطار على قضبان الحديد؛ لا تزيدها إلا جلاء وضياء، ورابعة ليست بأقل من أيّ حدث من تلك الأحداث الجسام، ليست بأقل من مذابح صابرا أو شاتيلا أو دير الزور؛ تلك التي استمدت منها المقاومة الفلسطينية زادها ووقودها وسبب بقائها وصمودها، وليست بأقلّ من مذبحة دنشواي التي ألهبت خيال عشاق الحرية وأمدت أقلامهم بالمداد وميادين جهادهم بالجنود والعتاد، ولم تكن الوقائع التي فجرت الثورات في أوربا وأمريكا وغيرهما، وسعرت المقاومة ضد الغازي المعتدي في الجزائر وليبيا وفيتنام وغيرها، وأججت نار الغضب ضد العسكر المنقلب في أورجواي والبرازيل ونيكاراجوا وغيرها، لم تكن تلك الوقائع من حيث عمق الأثر في النفوس بأكبر ولا أعمق من رابعة.
ولعلها سنة إلهية: أنّ الدماء الزكية أذا روت أرضاً استحالت الأرض حقلا ينبت المقاومة، وأنّ اصطفاء الله للشهداء مقدمة لحصد الظالمين ومحق الكافرين: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)) (آل عمران 140-141)، ولعلنا نصغي لنداء هذه السنة ونتجاوب مع صداها الذي تردد في جنبات التاريخ الإنسانيّ على مر الدهور وكر العصور، ولعل الله يطلع منّا على قلوب تهفوا للعمل والكفاح فيسوق إلينا من الأحداث الكونية التي تفتح الأبواب المغلقة، (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) (المدثر 31).
لقد مضت بعد “رابعة” ست سنوات عجاف؛ ملؤها الإحباط واليأس والجفاف، والأسباب ليست منحصرة في انسداد الأفق على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، وليست مختصرة فيما يمارسه الانقلاب الغاشم من عنف وإرهاب وما يمارسه المجتمع الدولي من نفاق وتدليس وقلب للحقائق، ولكن هناك أسباب كثيرة ترجع بجذورها وفروعها إلينا نحن، أول هذه الأسباب الانطلاق المستمر والدائم من ردود أفعال وقتية، دون اعتماد رؤية كلية وخطة مرحلية؛ لأننا إلى الآن لم نجلس معاً ولم نفكر معاً ولم نجعل للتفكير والتدبير – رغم كثرة المفكرين ووفرة مراكز التفكير – شأنا ومقاما وبرنامجا يعول عليه، ولَكَمْ نادى المنادون بتدارك ما فات والبدء من النقطة التي لا يكون الابتداء رشيدا إلا بها، وهي التي سميتها من قبل “الخطوة الأولى المنسية”، تلك التي نقوم فيها بمراجعة ملؤها الشفافية والمصارحة والمكاشفة، ومع المراجعة جمع للكلمة وتوحيد للصف.
أمّا السبب الثاني فهو حالة الانقسام والتشظي التي لم تجد من يتداركها بحكمة ووعي واستيعاب، وهي حالة لها عوامل يرتبط أغلبها بالمرحلة التي نمر بها، لكن من أهم هذه العوامل حالة الراحة والفراغ، وابن آدم مغبون في نعمتين: “الصحة والفراغ” كما جاء في الحديث الشريف، فلا عجب أن نرى طاقات الناس وإبداعاتهم تطفح على صفحات (الفيسبوك) وفي مجموعات (الواتس) وسائر وسائل (التفاسخ) الاجتماعي؛ تطفح تهارجا وتنابذا وتقاذفا، فهؤلاء خونة منبطحون، وأولئك “دواعش” سفاحون، وبينهما فارغون متفيهقون، وليس لوصف من هذه الأوصاف القاسية وجود إلا في الأذهان التي أكلها الفراغ وامتطاها الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس.
ولسنا بحاجة إلى الإطالة في وصف حالنا بقدر ما نحن بحاجة إلى رؤية ننطلق منها ونبدأ المسير من جديد، ومن رحمة الله تعالى بعباده أنّه لم يكلفهم من الأعمال ما لا يطيقون (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إلا وُسْعَها)، فما الذي نطيقه؟ الفكرة تتلخص في إطلاق فعالية عالية التأثير بمناسبة فض رابعة العدوية، واتخاذها منصة انطلاق لعمل جديد؛ فيكون دور الفعالية استعادة اليقظة، وبعدها ننطلق في مشروع بسيط ومستطاع، يعتمد آليات الحراك الخارجيّ على محاور سياسية وحقوقية وإعلامية مع جملة من الفعاليات الشبابية المتنوعة والمنتشرة في تزامن مشترك، بهدف التضييق دوليا على النظام الانقلابيّ في مصر؛ من أجل أن نحقق مكتسبا ما؛ لصالح المعتقلين خصوصا ولصالح القضية عموماً، ثم يكون هذا المكتسب خطوة لها ما بعدها، وحالة نجاح يبنى عليها، والخطوة التالية يمكن أن تترك لكل فصيل حسب رؤيته، فمن كان يرى الحل في تسوية سياسية سيجد له على طاولة التفاوض مقعداً آمنا مطمئنا بفضل ما أنتجته الخطوة السابقة، ومن لم ير ذلك وأحب أن يكمل المسار الثوريّ فسيجد من الشارع تجاوباً ولو تدريجياً بفضل الخطوة السابقة أيضاً، ولو أننا لم ننشغل بتتبع الزلات وتعقب العثرات لجمعنا الطريق في نهاية المطاف، المهم أن نحسن إدارة الاختلاف وإدارة المساحات المشتركة وإدارة التعددية في الأفكار.
وينبغي أن تقوم استراتيجية العمل على التنسيق بين الجهود التي تبذل أصلا، وعلى حسن توجيهها وتصحيح مسارها، وإضافة ما يحولها إلى فعاليات حركية ذات تأثير، فهناك جهود إعلامية وجهود حقوقية، وهناك محاور في ميادين إيقاظ الوعي وكشف سوءات النظام الانقلابيّ، وميادين الدفاع عن حقوق الإنسان، وغير ذلك، وهي جهود مبعثرة، وينقصها أن تترجم إلى فعاليات مؤثرة، وهذا هو الجديد الذي نريده ونود أن نعد له خطة عمل وفريق عامل أكثره متطوع وبعضه متفرغ.
الفعالية التي تجمع بين موضوع فض رابعة وموضوع استشهاد الرئيس وموضوعات أخرى، وتكون قادرة على إحداث الزخم المطلوب؛ ليستثمر بشكل فعال ومنظم لإطلاق حراك جديد ومفيد، يُدْغم في ذيلها ورشة عمل تنعقد في أدوار لوضع الرؤية والمشروع وخطط التنفيذ للمشروع الذي سينطلق عقب الفعالية، ويعتمد الحراك الخارجيّ هذا آليات العمل الحقوقي والإعلامي والسياسي وغير ذلك من محاور الحراك في الخارج فقط، ويترك الحراك الداخليّ ليكون صدى طبيعيا غير متكلف لحراك الخارج، ونترك للناس في الداخل خياراتهم المختلفة في التواقيت وآليات التحرك وغير ذلك.
وينبغي الاستفادة من الجاليات المصرية حول العالم وممن يتجاوب معها من الجاليات العربية والإسلامية في دول عديدة، ويستهدف الحراك ممارسة التضييق على النظام خارجياً، عبر ملفات سياسية وحقوقية وإنسانية وغير ذلك، ويتسع الحراك ليشمل كل أبناء مصر المقاومين للظلم بكافة مكوناتهم، دون محاصصة ولا دخول في تفاصيل مستقبلية، وليكن الهدف فقط هو مقاومة الظلم والاستبداد، واستعادة مسار الثورة على النظام الانقلابيّ، وهذا مشترك واسع ورحب، والمرحلة لا تتحمل الدخول في جدليات.
والملفات المستهدفة تشمل ملف استشهاد الرئيس الشرعي والمطالبة بفتح تحقيق دولي موسع، وملف المعتقلين والمطالبة بتدخل من المؤسسات الدولية، وملف التحول الديمقراطي وفضح الأنظمة الداعمة للانقلاب لدى معارضيها وقوى التأثير فيها.
وفي النهاية ليست هذه الورقة سوى مقترح يوضع بين يدي المصريين بالخارج، ونسأل الله أن يتولانا ويبارك في سعينا ويتقبل منّا، وإذا كانت العشر الأوائل من ذي الحجة – كما جاء في حديث ابن عباس المتفق عليه – العمل الصالح فيها أحب إلى الله من كل الأيام؛ فإنّ السعي لفك الأسير وتفريج كربات المستضعفين والنهوض بالأمة من أحب الأعمال إلى الله ولاسيما إذا كانت في العشر [1].