هل توافقني الرأي في أنَّ “رابعة” كانت مِنَصَّة الانطلاق إلى مرحلة جديدة في الثورة المصرية وجميع ثورات الربيع العربيِّ؟ وأنَّها قامت بدورها على أكمل وجه في تكوين النواة الصلبة التي افتقدتها ثورة الخامس والعشرين من يناير؟ وفي بناء العقيدة والأيديولوجية الثورية التي لا بد منها لاستمرار العمل الثوريِّ بلا توقف ولا اضطراب؟ وهل تتفق معي في أنَّنا لم نحسن الاستفادة بها ولم ننجح في تفعيل دورها؛ بسبب انطلاقنا من ردِّة فعل أحدثها الانقلاب العسكريّ الغاشم ؟ وأنّنا علقنا بها مسؤولية كسر الانقلاب عاجلا غير آجل؟ دون أن تكون لنا رؤية مستمدة من فهمنا لمعطيات الواقع العريض العميق؟
أتوقع بدرجة كبيرة أنك لن تخالفني – على الأقل – في كثير مما أزعم؛ ومن هنا أتخذ المبرر للانطلاق في استكمال مشروع “الثورات والسنن الإلهية” الذي بدأته بمقال سابق، وأن تكون انطلاقتي هذه من “رابعة” حيث تجلت هناك كثير من السنن التي لا يصح أن تغيب عن بالنا وإلا استمر معنا التضييع للمكتسبات والإهدار للمنح الربانيَّة.
إنَّ أشدَّ ما كانت تعانيه الساحة في تلك الآونة التي امتدت من موجة يناير ((كانون الثاني) 2011م إلى ما قبل انقلاب تموز/ يوليو 2013م هو ذلك التشابك بين الحاملين للثورة والراكبين على ظهرها، وذلك التداخل بين الثورة الحقيقية والثورة المضادة، وتلك الضبابية الناشئة عن انفتاح الساحة لكل بر وفاجر وكل نقي وعاهر، مما كان له أثره البالغ في اضطراب الساحة وأيلولة كل المكتسبات إلى العدو المتربص.
الآن بدأت الرؤية تتكشف، وجاءت أحداث الانقلاب كالغربال الذي يميز بلا محاباة بين الجيد النافع والرديء التافه. هذا التمييز سنَّة إلهية كبرى، لها أثرها البالغ في مسيرة التغيير. قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (آل عمران 179)؛ فهل كان بالإمكان أن تستمر مسيرة التغيير، أو تبدأ مسيرة البناء بعد التغيير دون تمييز بين الخبيث والطيب، ودون غربلة تنتقي الطيب وتنفي الخبيث؟
لا ريب أنَّ كل امريء منَّا كان مذهولا من تبدل المواقف ومندهشا من انقلاب القناعات؛ ومنزعجا أشد الانزعاج من تلبس الحق بالباطل وأهل الحق بأهل الباطل، لكن سنَّة الله في التمييز لا تتبدل ولا تتخلف؛ فها هي الساحة تمور وتضطرب وتفور فوران البركان؛ فترفع أقواما وتخفض آخرين وتبيض وجوه قوم وتسود وجوه آخرين، وتنبئ باستمرار فورانها ودوام اضرابها عن كثير من الدغل في جوفها تريد أن تلفظه.
ومن هذه السنن كذلك سنَّة التمحيص: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} (آل عمران آية 141)، والتمحيص هو التطهير والتخليص، فلكي يواصل أهل الحقِّ طريقهم بقوة ومضاء لا بدَّ أن يصقلوا بهذه التربية وهذا التمحيص؛ ليكونوا مؤهلين لحمل أمانة التغيير، فلا تكون الثورة بالنسبة لهم مجرد صيحة صادفت هواهم وانسجمت مع ثقافتهم، فاستجابوا لندائها، وإنَّما تصبح مسئولية يتهيأ لها الكبار الأطهار.
ومن السنن كذلك سنة الإملاء: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدا} (إنَّ الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) فالله تبارك وتعالى يعلم مقدار ما في نفوس القوم من جحود وكنود، ويحيط علما بما تنطوي عليه قلوبهم وحياتهم من فساد وإلحاد، ويريد بحكمته وعدله أن يستخرجه ليكون حجة عليهم؛ فهو لذلك يمهلهم ويملي لهم ويستدرجهم من حيث لا يعلمون؛ ليقع في النهاية ما قدره الله تعالى من الخير الكبير لهذه الأمَّة ولهذا الدين.
لقد أصبحنا الآن بفضل هذه السنن في ظرف تاريخي متميز؛ لو حاولنا أن نصنعه بأيدينا لما استطعنا ولو بذلنا في سبيل ذلك ما تجود به قرائح المجتهدين وأنفس المجاهدين، ولَكَم لعنَّا من الأحداث ما لو كنا ندرك يومها أنها مقدمات لما نحن فيه اليوم من تمايز الصفوف ووضوح الرايات لباركناها وعددناها من هدايا القدر، ولَكَم ارتكب المخدوعون من الفعال التي ظنوها بطولات ما لو يدركون أثرها الانتكاسي عليهم اليوم لما وسعهم إلا أن يقتلوا أنفسهم ندما وحسرة، ولقد يعجب الدهر ذاته مما حدث؛ إذ كيف اجتمعت كل هذه المتناقضات بهذه السرعة وبهذا الإصرار الذي بلغ من الغباوة أن كفر بالثورة لكونها أتت بالإسلاميين، وعبر عن كفره بها بشتى أدوات التعبير، عدا التصريحات التي لم تعد تستر شيئا من عوراتهم المفضوحة إلا بقدر ما يستر الزجاج الشفيف من توارى خلف ألواحه.
فلننطلق من ذكرى رابعة بروح عالية وهمَّة متقدة، ولنكن على يقين بأنَّ الله يدبر لنا ويكيد لاعدائه بنا، والله من ورائهم جميعا محيط.