كأنَّ القَدَرَ يأبى أن تخلو سماء العلم من نجمٍ ساطعٍ من أرض الكنانة؛ يبرق للدنيا بأسرها: أنّ الذي وهب مصر نيلها المتدفق بالعذب الزلال قد بثّ في أحضان هذا النيل بذور المجد ولقاحات العظمة. فما أكثر العلماء المصريين الذين لهم إسهامات بارزة في شتّى ميادين العلم! فأين ذهبت جهودهم؟ ولماذا لم ننجح في احتضانهم؟ أم إنّنا قوم لم نَمْهَرْ إلا في التجريف والتنحيف؟!
لكن على الرغم من كل ما يورث الكآبة والقنوط يجب أن نتفاءل، وأن نسعى سعيًا حثيثًا لاسترداد ما ضاع منَّا، سواء على مستوى الموارد الطبيعية المهدرة -وعلى رأسها النيل العظيم- أو على مستوى الطاقات البشرية المضَيَّعة وعلى رأسها العقول المهاجرة؛ ونحن على ذلك قادرون، إذا شئنا ولم يُعَجّل بنا المنون.
العقول المصريّة.. يأفل نجم ويبزغ آخر
يبدو أنّ الحظر المفروض علينا لم يَعُدْ يقتصر على ما يهدد المشروع الصهيونيّ، كعلوم الطاقة النووية، وإنّما صار يتسع ليشمل كلّ ما يحقق المنافسة التي تهدد التفرد المطلق للكيان الصهيونيّ بقيادة ما يسمى بالشرق الأوسط، فبعد سلسلة الاغتيالات التي طالت علماء الذرة، من أمثال سميرة موسى وسمير نجيب ويحيى المشد، وآخرين من علماء الفيزياء، من أمثال مصطفى مشرفة وسعيد السيد بدير؛ إذْ بيد الغدر تمتد إلى باحثة دكتوراه مصرية (ريم حامد) تخصصت في فرنسا في البايوتكنولوجي (التكنولوجية الحيوية) وهو مجال علمي يدمج بين علم الأحياء والتكنولوجيا، يقوم على دراسة الجينوم أو المحتوى الوراثي الكامن في الـ”DNA”، ثم استثمار ذلك في تطوير العلاجات وتحسين السلالات الزراعية من خلال الهندسة الوراثية، وفي لحظة من الزمان عابسة سقط النجم وطويت الصفحة.
وما إنْ أَفَلَ هذا النجم حتى سطع لنا نجم آخر، فقد استضافت قناة الجزيرة مباشر العالم المصري الشاب محمد ثروت حسن، أستاذ الفيزياء في جامعة أريزونا الأمريكية، وهو الذي يُشْرف الآن على اختراع ميكروسكوب إلكتروني يُعَدُّ هو الأسرع في العالم، حيث تكون الكاميرا فيه أسرع من حركة الإلكترون في دورانه حول نواة الذرة، وبهذا يحقق محمد حسن وثبة أبعد مما حققه الدكتور أحمد زويل الذي اعتمدت دراسته على محاولة ناجحة لرؤية تحرك الذرات داخل الجزيئات، أمّا المجهر الجديد فيستطيع أن يرى حركة الإلكترونات داخل الذرة، وهي حركة أسرع بألف مرة من حركة الذرات داخل الجزيئات.
ورصد حركة الإلكترون داخل الخلايا الحية سوف يسهم في تحديد علاجات أمراض عديدة عن طريق معرفة سلوك الجسيمات في المادة الحية، حفظ الله عالمنا ووقاه شرّ المجرمين.
ألم نكن نحن أولى بهذه العقول؟
بالتأكيد نحن أولى بهذه العقول، وبالتأكيد ما هاجرت هذه العقول رغبةً عنّا ولا زهدًا فينا، وإنّما قامت أسبابٌ حتَّمت على العباقرة الأفذاذ أن يهجروا بلدهم وأهلهم ويهاجروا إلى غير بلدهم وغير أهلهم، يأتي على رأس هذه الأسباب العامل السياسيّ؛ فإنّ الاستبداد السياسيّ والفساد الإداريّ مع غياب الرؤية لدى أنظمة عسكرية حكمت بلادنا عقودًا طويلة؛ كان له بالغ الأثر في الحياة العلمية، فحيثُ تنعدم الحرية التي هي المناخ الوحيد الباعث على الابتكار والإبداع؛ ينفتح الباب على مصراعيه لنزوح العقول العاشقة للحرية والطامحة في الحياة الكريمة، وحيثُ تغيب الرؤية الحضارية ويتوارى المشروع النهضويّ؛ يسيطر على أصحاب الهمم الرفيعة والإمكانات العالية شعورٌ بالرغبة في الفرار ومفارقة الديار.
كما أنّ “بيئة البحث العلمي” ليست متوفرة في بلادنا، فهي -كما صرح محمد حسن للجزيرة- “مهمة جدًّا لكي نستطيع عمل اختراقات متميزة في العلم”، وليتنا -إذْ لم نوفر البيئة العلميّة- أتَحْنا مناخًا صِحّيًّا لنمو العقل والفكر. إنّ بلادًا لا يجد فيها العالِم أو الباحث الأَكَاديميُّ عُشْرَ ما ينالُه اللاعب أو المطربة من الاهتمام والاحتفاء؛ لَهِيَ بلادٌ طاردةٌ لأصحاب العقول، وإنَّ أنظمةً تحارب الأفكار وتلقي القبض على الخواطر وتحصي على الناس الأنفاس؛ لَجَديرةٌ بأن تخلو من العلماء خُلُوّ الصحراء من الماء، وأخيرًا سلوهم: ما حجم الإنفاق عندنا على البحث العلميّ قياسًا بإسرائيل؟!
عموم الظاهرة واتساعها
ليست مصر وحدها التي ضيعت أبناءها، فإنّ حركة هجرة العقول التي صبّت كلها في الغرب كانت لها منابع في مصر والشام والعراق وغيرها، وأذكر من هؤلاء على سبيل المثال بعض من تمّ استهدافهم بالتصفية بسبب خطورة وحساسية ما تفوقوا فيه، منهم عالم الذرة العراقي إبراهيم الظاهر، والفلسطيني نبيل فليفل ابن رام الله الخبير في الطاقة النووية، واللبناني رمال حسن رمال أحد أهم علماء الفيزياء بحسب مجلة فرنسية، ومهندس الطيران التونسي محمد الزوواي، وغيرهم، كل هؤلاء لم تستفد بهم بلادهم للأسباب التي ذكرنا، والأخطر من هذا كله أنّ الأسباب الداعية إلى الهجرة قد ازدادت في أيامنا هذه مع حركة النزوح الجماعيّ من البلدان العربية والإسلامية إلى أوروبا وأمريكا.
أين المخرج وكيف السبيل؟
يقترح البعض أن يقوم المسلمون بتفعيل دور الوقف الإسلاميِّ في توفير ما يلزم للبحث العلميّ ولكفالة الباحثين والإغداق عليهم، مع بناء مدن علمية في بعض الدول الإسلامية القليلة التي تسعد بحياة سياسية مستقرة على وجه ما، ونشر كثير من المراكز البحثية والأكاديمية التي ينفق عليها وعلى المدن العلمية من الوقف الإسلاميّ؛ وحجتهم أنّ الجامعات الكبرى مثل أكسفورد وكمبيردج وغيرهما كانت جامعات وقفية تشرف عليها الكنيسة، والطموح لدى هؤلاء يتجه إلى مخاطبة رؤوس الأموال الصالحة؛ لتبَنِّي مشاريع وقفية تظلل البحث العلميّ الذي ينبني عليه إنتاج؛ فيتعانق العلم مع التنمية؛ ويحققان معًا وثبة حضارية كبيرة، وهناك مقترحات عملية كثيرة وجادّة وشديدة الطموح.
لكنّ الأهم من كل هذه المقترحات والأسبق لها جميعًا أنْ يتوافر لدى أهل الإسلام مشروعٌ حضاريٌّ واضح المعالم، ورؤية نهضوية تتجاوز الأنظمة المعاقة، فإنّ الأرض على اتساعها وكثرة ما يدب عليها من أجناس الناس، ليس فيها قوم خلت أيديهم من ملامح مشروع ناهض إلا نحن؛ فمتى نفيق؟ ومتى ينبري علماء الأمة ومفكروها لوضع ملامح المشروع الحضاريّ الإسلاميّ الكبير؟
اقرأ أيضا