سأل المذيع فأجاب “الفظيع”

الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..

سأل المذيع – وليس لنا أن نسأل المذيع لِمَ سألت هذا السؤال على هذا النَّحو في هذا التوقيت – لأنّه حرٌّ فيما يطرح من أسئلة، وكان السؤال: كيف تُسَوِّقُ المنظمات الإسلامة نفسها أو ما هي آليات الاستقطاب عندها؟ فاعتدل (المفكر الإسلاميّ!) وأخذ ينسج الإجابة على هذا النحو:

“المنظمات الإسلامية عندها منهج مشترك .. هي تبدأ من قضية بسيطة : نحن نريد أن نتعلم الدين، وتُنشيء محاضن في المساجد، فتبدأ مع الشاب بتضخيم مشكلة العالم الإسلامي، وأنّ السبب هو أننا بعيدون عن الله عز وجل، وأنّ الحكام بعيدون عن الله تعالى، فإذا استقر هذا ظهرت قضية وجوب تحكيم شرع الله تعالى، فتظهر مشكلة: كيف يمكن تحكيم شرع الله تعالى، هنا تظهر قضية وجوب التنظيم، وداخل قضية التنظيم تُطرح أسئلة عديدة مترتبة تحدث إرباكا في العقل المسلم، ثم تنتهي إلى هذه النتيجة .. وهي بعد ذلك لا تتقدم خطوة في قضايا التنفيذ، هي تقول يوما ما سيأتي الجهاد في سبيل الله .. فجاء هؤلاء الدواعش فوجدوا الخميرة جاهزة، فاستثمروها في التكفير والقتل، وبذلك كانت الجماعات التي تسمى نفسها وسطية قد أعدت الخميرة للدواعش …”

     هذا ما قاله المفكر الإسلامي (جاسم سلطان)، ولو أنّ الذي تولى الإجابة على السؤال كان “فؤاد علام” لواء أمن الدولة المخضرم في التحليل الأمني للحركات الإسلامية ما تعدى كلامه هذا الكلام، فهذا السياق في جوهره تحليل أمني استخباراتيّ بامتياز، لا علاقة له بالمنهج العلميّ، ولا يسعد بأدنى درجات الإنصاف والحيادية، ولا يبدو فيه أيّ نَفَسٍ علميّ على الإطلاق، ومع الأسف راج هذا الكلام عند الكثيرين منّا لا لشيء إلا لأنّهم وجدوا فيه شفاء لصدورهم الحانقة على المنظمات الإسلامية.

    وإنّي والله مثلهم لحانق على هذه المنظمات الإسلامية بكافّة توجهاتها، ليس للنتيجة الدراماتكية التي انتهى إليها الدكتور جاسم سلطان، وإنّما لتسلسل الفشل بأسباب تكاد تكون واحدة عند الجميع، غير أنّ حنقنا عليها وسخطنا منها لا يمنعنا من قول الحقّ وانتهاج العدل في رسم صورتها، قال تعالى: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) (الأنعام: 152)، فلنقل الحقّ الذي ينبغي أن يقال، وإلا فالصمت أولى.

    ومن الحق الذي يجب أن يقال في التنظيمات والجماعات الإسلامية أنّها لم تكن قط بهذا الوصف الذي سجله عنها، لم تكن هكذا متربصة بالشباب؛ تنصب لهم الفخاخ، وتنقلهم بأساليب تبدو عليها سمة التآمر من مرحلة إلى مرحلة، لم تكن إلا محاضن للهداية والاهتداء، تتلقى الشباب والفتيات، وتمسح عنهم ما أصابهم في هذه الحياة من آثار الأنظمة الفاسدة، تمسح عنهم اليأس والقنوط والإحباط، وتبعث فيهم الهمة والأمل، وتعرفهم بالله تعالى وبشريعته الغراء، وتتدرج بهم في صعد الإيمان والتقوى والعمل الصالح، وتلقنهم شمول الإسلام وصفاء العقيدة، وتدربهم في ساحات العبادة والقربى.

    أمّا أنّ العالم الإسلاميّ كان يعيش أزمة؛ فإنّه والله كان ولا يزال يعيش أزمة وأزمات، وما جاوزت التنظيمات الإسلامية الحق وهي تقدم هذا الوصف للناس، وأمّا أنّ سبب الأزمة والأزمات هو بعد الأمة عن منهج الله فهذا حقٌّ، ومن ذا يجادل في هذا؟ من ذا يجادل في أنّ ابتعاد الأمة عن منهج الله هو أصل كل داء وأساس كل بلاء؟! وأمّا أنّ الحكومات والأنظمة بعيدة عن الله فهي والله بعيدة عن الله وعن كل ما يمت إلى الله بصلة، ليس هذا وحسب بل إنّ هذه الأنظمة محاربة لله ورسوله ومشاققة لدين الله وشريعته، ولا يشك اليوم في هذه الحقيقة إلا أعمى البصر والبصيرة.

    ومن الحقّ الذي يجب أن يقال لصالح هذه المنظمات الإسلامية أنّها عندما دعت إلى تحكيم الشريعة كانت على صواب في دعواها، وكانت كذلك صادقة في دعواها، وكم دفعت من أرواح وحريات علمائها وأبنائها من أجل هذه القضية، وإنّها لقضية تستحق أن تبذل من أجلها الأرواح؛ لأنّ جذر البلاء الكبير تمثل في هجر منهج الله، وتحكيم النظم الوضعية، وإقامة الحياة على أساس من رفض ألوهية الله، وهذه قضية جلية في كتاب الله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (المائدة: 44) (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة: 45) (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (المائدة: 47) (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة: 50).

   وأمّا أنّ التنظيم ضروريّ من أجل القدرة على التغيير فهذا مما لا شكك فيه شرعا وعقلا؛ إذْ إنّ “ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”، فهذه الجماعات لكي تضطلع بواجب التغيير في مواجهة أنظمة مستبدة ظالمة مجرمة، تملك الأدوات الخشنة كافة ومعها الإعلام وسائر قنوات التأثير؛ كان لا بد لها من التنظيم والإحكام وترتيب أمورها على نحو يحقق لها شيئا من القوة.

    ومن الحقّ الذي يجب أن يقال عن التنظيمات الإسلامية أنّها بريئة براءة تامّة من الدواعش ومن الدعشنة، بريئة حتى من نسبة الدعشنة إليها كنتيجة لأفكارها وتقصيرها؛ فما قامت المنظمات الإسلامية قط على أفكار الدواعش، وما أيدتها يوما من الأيام، ولا قصرت في الانتقاد لها وتحذير الأجيال منها، وقد علم الكافّة أنّ داعش ما أسست إلا لتكون أداة من أدوات إحباط المشروع الجهاديّ الإسلاميّ ومشروع عودة الخلافة، وفكرتها قائمة على إنشاء نموذج فج للخلافة يساق على أنّه هو المشروع الذي تسعى إليه الحركات الإسلامية؛ لتنفير الخلق من هذه الغاية المفزعة، إضافة إلى مقاصد أخرى؛ كاتخاذ أفعالهم ذريعة لشن الهجوم على الأبرياء، وكلها أساليب مخابراتية دنيئة، لم يعد يجهلها رجل الشارع.

    فأيّ علاقة يريد جاسم سلطان أن ينشئها بين الجماعات والحركات الإسلامية التي برغم أخطائها الكثيرة تُعَدّ حسنة الزمان في هذا الجيل كله؛ وبين تلك المكونات الخرفة التي لوثت فضاء الأمة بأفكارها وأفعالها؟! إنّها علاقة السبب والنتيجة؛ فكأنّ هذه النتيجة السيئة أثر من آثار تلك التنظيمات أو الجماعات أو الحركات، وهذا ظلم كبير؛ لأنّه من جهة يُحَمِّل العمل الإسلامي جرائم لا يتحملها ولا يُسأل عنها ومن جهة أخرى يبرئ صناع المأساة الحقيقيين.

    إنّ الفكر المتطرف الخارج عن الاعتدال لم ينع إلا على يد أعداء هذه الصحوة المباركة، إمّا بطريق غير مباشر؛ عبر ضغوط تولد ردود أفعال مرتجلة، وإمّا بطريق مباشر عبر الدعم للأفكار وإتاحة المجال عندما يكون للاعتدال ظهور واقتراب من الظفر، وقد كانت هذه الطريقة إحدى الوسائل التي حوربت بها المقاومة السورية ضد نظام بشار الأسد؛ فقد كان المشروع الداعشي أحد أهم الوسائل لضرب المقاومة.

    وإنّنا لنعلم أنّ الجماعات اليوم عاجزة عن الخروج من هذه الأزمات التي وقعت فيها بسبب سلسلة الفشل المتوالية، ولكنّها لا تتحمل وحدها مسئولية هذا الفشل، ولقد أدت ما عليها في زمن مضى كانت فيه هي الأفضل على الساحة العربية والإسلامية اعتقادا وخلقا وسلوكا وخدمة للأمة، ولقد نجحت في الحفاظ على الدين في أوقات كانت فيه الحكومات العربية كافّة تحارب الدين أكثر من أعداء الأمة التقليديين، والآن تغير الزمان وصارت الجماعات غير قادرة بتنظيماتها التقليدية على مواكبة الأحداث.

    وما يراد من الطعن على هذه الجماعات في هذه الأوقات هو ليّ أعناق الجيل إلى جهة بعيدة تمامًا عن هوية الأمة وثقافتها، ما يريده الكثيرون ممن يمتطون المنابر الإعلامية ومواقع التأثير هو صرف همّة الجيل إلى التجربة الغربية والأنموذج الغربيّ، هذا هو مرادهم الذي أطل برأسه في كثير من مقولاتهم، وما نقدهم بهذه الطريقة للحركات الإسلامية إلا جزءًا من مخططهم، نقول هذا ونحن نتضور ألما لما وصلت إليه كثير من الحركات والجماعات، ولكنّ الإنصاف يلزمنا بقول الحقّ فيهم وفي غيرهم؛ “والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون”.