أنا “جعااااان”.. صيحة فصلت بين عامين لا يُدْرَى أيهما أبأس من الآخر، وصرخة جسّدت آلام شعب طحنته السنون الملأى بالمآسي والمحن، وأَنَّات خرقت جدار الصمت وانفلتت كدفقات البركان الذي انفصمت عرى وكائه على حين غرة؛ فاستثارت ما رسب في قاع الأيام والأعوام من آلام جسام وأورام ضخام، إنّها صرخة وطن تشكو الظلم والقهر والحرمان، غير أنّها آثرت أن يكون عنوانها بسيطاً قريباً من الأفهام: “أنا جعاااان”.
يا لهف نفسي على وطن تجسدت حاله في إنسان بسيط ممتلئ رجولة وفحولة، تصرعه الأحمال الثقال التي تنوء بحملها الجبال، وتطرحه أرضا كأنّه جذع نخلة باسقة اقتلعتها الريح الجموح، ثم لم تبال بأي أرض قذفتها، فإذا هي بعد عزها وشموخها منجدلة تحت أعين المارة وأقدام العابرين.
كم من الأهوال النفسية عاناها هذا المواطن المصروع تحت أقدام المصائب والنوائب، وكم من المعضلات المعيشية اجتازها بصبر يتضاءل أمامه صبر الجمال تحت الأحمال الثقال؛ قبل أن تسلمه الأيام المشبعة بالأحزان إلى هذه المحطة؛ ليجد نفسه قد نفدت كل مؤنته، وخارت جميع قواه، إلا من هذا الصوت الذي يتردد صداه في أجواز السماء وتضاعيف الفضاء بصيحة العام: “أنا جعاااان”.
يا ويح قلبي.. كم من مواطن يصرخها في أعماق قلبه وفضاء نفسه؛ فلا يمسكها عن الانطلاق إلا قشرة من الصبر ربما كانت أكثر تماسكا من شقيقتها عند أخيه ذاك، وكم من رجل كالجبل الأشم، يوشك أن يخر ويندك لولا حَبْل من الأمل يتعلق به، قد تهتكت جميع خيوطه فلم يبق منها إلا القليل الهزيل، وكم من نفس في بلدي لا يمسكها من الانتحار إلا الخوف من الخلود في النار.
لا تلوموه أيها المنظرون المترفون، ولا تقولوا جَزُوعٌ يشكو آلامه للناس، فإذا كان القلم قد رفع عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يعقل وعن المجنون حتى يفيق؛ فهل يعقل أن يوضع على ميت قد لفظت كل قواه العقلية والنفسية والجسدية أنفاسها الأخيرة، لا تلوموه ولكن اجمعوا كل ما في جعبتكم من لوم فألقوه على رأسي أنا، أجل.. على رأسي أنا؛ فأنا من ضيعه وأسلمه لهذا المصير، أنا من قتل أخاه وذبحه بسكين الاستكانة وشفرة الاستسلام، ولست ألوم سوى نفسي، إذ لا ينجيني غدا من سؤالي بين يدي ربي أن يكون كل الخلق في مثل موقفي، كما لا يخفف عني اليوم عذاب الضمير أن يكون أهل الأرض جميعاً شركاء لي فيما فعلت بتقصيري وإهمالي.
أخي الحبيب، إنَّ صرختك تخيفني، إذ أبيت شبعانا، والنبيّ صلى الله عليه وسلم ينفي الإيمان عمن يبيت شبعانا وجاره جائع، وأنت جاري، برغم ما بيننا من مسافات تتخللها قفار وتتولجها بحار، أنت جاري برغم أنني لا أعرف اسمك ولا رسمك ولا أصلك ولا فصلك، أنت جاري بل أنت أخي، ولأنصرنك، أجل.. لأنصرنك، ولأنصرنَّ وطني وبلدي وديني وأمتي، فاشهد عليَّ، وأشهد عليَّ كل هؤلاء الذين التفوا حولك ووقفوا منك ما بين راحم وراجم.
لقد آلمتني صرختك أكثر من أي شيء، لا أدري لماذا برغم كثرة المحن التي تمر بها الأمّة؟ آلمتني بالقدر الذي آلمني مشهد أخيك الذي شنق نفسه على طريق السويس، وأخيه الذي شنق نفسه على شباك بيته، ربما لأنك في حقيقة الأمر شنقت نفسك على طريق الكفاح وعلى شباك الصبر، لكن لا تهن، قم وانهض، وانفض عن جسدك التراب وعن نفسك اليأس؛ فلسوف يجعل الله لك من الهم فرجا؛ هذه سنته سبحانه.
سيجعل الله لك يا وطني بعد العسر يسرا، وبعد الذل عزا، وبعد الضيق سعة، وبعد الفقر غنى ورخاء، لكن علينا أن نسعى؛ فإنَّ الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، وعلينا أنَّ نحول التعب إلى غضب، والكرب إلى حرب، وأن نقلب المسار من الفرِّ إلى الكرِّ، ومن الهروب إلى الهبوب، وأن نستجيب لنداء المقاومة الذي يبدأ بمقاومة اليأس في داخل قلوبنا وينتهي بمقاومة الظلم الواقع علينا؛ فهذا هو الذي يحيينا، وهذا هو الذي عناه الله تعالى في قوله: “يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم”.