عقوبة التحريض على قتل المتظاهرين

الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..

في مصر وغيرها من دول الربيع العربيّ قامت الثورات على الحكام المستبدين، فجوبهت بالقتل بلا رحمة ولا هوادة، ثم كان للثورة المضادة نصيب عبر انقلابات متنوعة في أسلوبها، وفي سياق الانقلابات كثر القتلُ وتَوَحَّش القَتَلَةُ، وما كان للأنظمة أن تباشر القتل بهذه الوحشية إلا بتغطية إعلامية وفقهية وفكرية، وهذا ما وقع؛ فقد تعالت في سماء البلاد دعوات الإعلام المحرضة، وانبثت في أثيرها الفتاوى التي مضت على ذات الطريق؛ فَقُتِلَ الأبرياء الأنقياء معصومو الدم، ثم ها هي إرهاصات موجة جديدة من الثورة، تَدُبُّ وتحبو في وادي النيل وفي بلاد الرافدين، وتبرق بشائرها على استحياء في المغرب العربي، وتضطرم نارها تحت الأرض في بلاد الحرمين، فهل سيعود المبررون للقتل والنَّسَّاجون للفتاوى المحرضة على إراقة الدماء؟! هل سيعودون للتحريض والإغراء بالمتظاهرين والثوار؟ هذا ما نتوقعه ونخشاه؛ لذلك أحببت أن أُبَيِّن؛ إذ لا يجوز للأمة في مجموعها تأخير البيان عن وقت الحاجة.

وهذا الحكم بالطبع مبنيّ على حكم سابق، وهو أنّ التظاهر والثورة ضد هؤلاء الحكام الظالمين المستبدين حقّ للشعوب وواجب عليها؛ ذلك لأنّه قد استبان للقاصي والداني أنّهم لا يمثلون الشعوب إلا بقدر ما كان يمثلها المندوب السامي للاحتلال، وأنّهم ليسوا سوى محتلين للبلاد العربية بالوكالة، وأنّهم مجرد حراس للمصالح الصهيونية والغربية في المنطقة، والتظاهر ضدهم إمّا أن يكون للتعبير وإمّا أن يكون للتغيير، فإن كان للتعبير فهو من قبيل الحسبة السياسية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كان للتغيير فهو من قبيل ممارسة الأمة لسلطانها في التولية والعزل؛ إذ إنّها صاحبة الأمر والسلطان ومصدر الشرعية السياسية، وهذه أحكام ليس هذا موضع تقريرها؛ إذ سبق بيانها في مقالات وكتب منشورة، لي ولغيري.

والذي يمارس حقه ويؤدي واجبه لا يواجه بالتخويف ولا الإرهاب فضلا عن القتل وإزهاق الروح، فمن قتله سواء بالأمر أو المباشرة فهو مرتكب لكبيرة هي أكبر الكبائر بعد الإشراك بالله تعالى، قال الله عزّ وجل: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) (النساء 93)، والآية على ظاهرها، بما في ذلك الوعيد بالخلود في النار؛ لأنّ الأصل حمل اللفظ على ظاهر معناه، وتأويل الخلود بالمكث الطويل محمول على الحال التي يقتل فيها مؤمن مؤمنا في سياق لا يخرج الجريمة إلى كونها محاربة لله ورسوله، ولا ريب أنّ قتل الثوار يأتي في سياق الحرب على حقوق الشعوب وحرياتها التي قررتها الشريعة قبل كل شيء، وهذا السلوك حرب على الشريعة بلا ريب، هذا هو الجزاء الأخرويّ، أمّا الجزاء الدنيويّ فهو القصاص، يحكم به قضاء شرعيّ عادل، وينفذ من خلال حكم ترتضيه الأمّة.

والآمر بالقتل قاتل وإن لم يباشر، والمباشر للقتل قاتل بلا خلاف وإن كان مكرها؛ إذ لا اعتبار بالإكراه في قتل النفس؛ لإن حفاظ القاتل على نفسه ليس أولى من حفظ نفس المقتول، كل هذه أحكام مقررة بالإجماع لا شك فيها ولا ارتياب، وليس هذا أيضا موضع الحديث عنها، إنّما الحديث هنا عن التحريض والإغراء، عبر فتاوى مُلَفَّقة وإعلام مُزَوَّر، فما هو الحكم؟

ولكي نخرج بنتيجة سويّة وحكم شرعيّ صحيح يجب أنّ نسلك خطوتين لا غنى عنهما، الأولى: فصل القول في مسألة قتل الجماعة بالواحد، الثانية: تحرير القول في عقوبة التواطؤ على القتل والتعاون عليه، بحيث لا يقع القتل إلا بتكامل عناصر محددة يكون التحريض وما شابهه واحداً منها، هذا لأنّ التحريض على القتل إذا كان مؤثرا في القاتل ومبررا لعملية القتل كان عنصرا رئيسياً في الجريمة الجماعية.

فأمّا المسألة الأولى، وهي مسألة قتل الجماعة بالواحد فجمهور فقهاء الأمصار([1]) قالوا تقتل الجماعة بالواحد، منهم مالك وأبو حنيفة، والشافعي، والثوري، وأحمد، والأوزاعي وإسحاق وأبو ثور وغيرهم، وبه قال عمر حتى روي أنه قال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعاً، وقال به من الصحابة أيضاً عليّ وابن عباس والمغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنهم، ومن التابعين سعيد بن المسيب، والحسن البصري، وعطاء، واستدلّوا بما رواه البخاريّ عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن غلاما قُتِل غِيْلَة، فقال عمر رضي الله عنه: «لو اشترك فيها أهل صنعاء لقتلتهم»([2])، وروى البيهقي عن سعيد بن المسيب، أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قتل نفراً خمسة أو سبعة برجل قتلوه قتل غِيْلة وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا”([3])، وتمالأ معناه توافق([4])، والمتمالئون: أي المتعاقدون والمتفقون([5])، وقد فعل عمر هذا والصحابة في المدينة، ولا يعرف له في زمانه مخالف من الصحابة، وذلك كالإجماع([6]).

وقد اعتمد الحكم هنا على سدّ الذرائع وعلى المصلحة؛ “فالمستند فيه المصلحة المرسلة”([7])، و “مفهوم أن القتل إنما شرع لنفي القتل، كما نبه عليه الكتاب في قوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} وإذا كان ذلك كذلك فلو لم تقتل الجماعة بالواحد لتذرع الناس إلى القتل بأن يتعمدوا قتل الواحد بالجماعة”([8])

كما اعتمد الحكم على قول الله تعالى: {ولكم في القصاص حياة} فالمقصد الحفاظ على الحياة، “وسبب الحياة أنه إذا علم القاتل بوجوب القصاص عليه إذا قتل كف عن القتل … فلو لم تقتص من الجماعة بالواحد، لما كان في القصاص حياة، ولكان القاتل إذا هم بالقتل شارك غيره فسقط القصاص عنهما وصار رافعا لحكم النص”([9])، ولا ريب أنّ “القتل بغير حق لا يكون في العادة إلا بالتغالب والاجتماع لأن الواحد يقاوم الواحد غالبا”([10]).

وأمّا المسألة الثانية وهي الممالأة والتواطؤ على القتل فقد وردت أقوال المذاهب الأربعة بما يقطع الشك باليقين، فقد أورد الماوردي – الشافعي – كلاماً مطولاً بسط فيه الاحتالات التي عنَّت له”([11])، مردها جميعاً إلى مدى تحقق الممالاة، وعَدَّدَ ابن تيمية – الحنبلي – صوراً من التواطؤ والتمالؤ الذي يضع صاحبة في دائرة القصاص: “وإن كان بعضهم غير مباشر لكنه متسبب سببا يفضي إلى القتل غالبا كالمكره وشاهد الزور … فقد سلم الجمهور على أن القود يجب على هؤلاء”([12])، وفي مواهب الجليل يضرب الإمام شمس الدين الطرابلسي مثالاً فيقول: “كالقوم يجتمعون على قتل رجل فيقتل جميعهم به وإن ولي القتل أحدهم”([13])، فالذي باشر القتل واحد، لكن الباقي لم يكن منهم سوى الاجتماع والتمالؤ والتواطؤ، والإمام مالك سُئل: أرأيت إن كانوا محاربين قطعوا على الناس الطريق فقتلوا رجلا قتله واحد منهم، إلا أنهم كانوا أعوانا له في تلك الحال، إلا أن هذا الواحد منهم ولي القتل حين زاحفوهم، ثم تابوا وأصلحوا، فجاء ولي المقتول يطلب دمه، أيقتلهم كلهم أم يقتل الذي قتل وليه وحده؟ قال: يقتلوا كلهم إذا أخذوا على تلك الحال”([14]).

ومن المعلوم أنّ الإعلام والإفتاء من مؤسسات النظام، وما يقومون به إنّما يكون عن تمالؤ مع النظام، ومن ثم يقع عليهم الحكم، ويكون عليهم القصاص كالمباشر والآمر سواء بسواء؛ ذلك ليعلم كل امرئ ما له وما عليه، فليكف أهل الكلمة من إعلاميين ومفتين وغيرهم عمّا يتسبب في قتل أنفس معصومة، وإلا وقعوا إن عاجلا أو آجلا تحت طائل عقوبات شرعها الله ورسوله، هذه العقوبات منوطة بالقضاء سواء قضاء العدالة الدائمة أو العدالة الانتقالية أو محاكم ثورية، أو غير ذلك مما ترتتضيه الأمة، ووارد أن يفلت البعض من العقاب لسبب أو لآخر، لكنه لن يفلت من عقاب الآخرة، والله ولي التوفيق.


([1]) الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي (4/ 245) – بداية المجتهد ونهاية المقتصد (4/ 182) – البناية شرح الهداية (13/ 125) – الحاوي الكبير (12/ 27) – روضة الطالبين وعمدة المفتين (9/ 159) – الروض المربع شرح زاد المستقنع (ص: 633)

([2]) صحيح البخاري (9/ 8)

([3]) السنن الكبرى للبيهقي (8/ 73)

([4]) فتح الباري لابن حجر (12/ 228)

([5])الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي (4/ 245)

([6]) تفسير ابن كثير (1/ 358) – العناية شرح الهداية (10/ 243)

([7]) تفسير المنار (7/ 164)

([8])بداية المجتهد ونهاية المقتصد (4/ 182)

([9]) الحاوي للماوردي (12/27)

([10]) البناية شرح الهداية (13/ 125)

([11]) الحاوي الكبير (12/ 29 – 31)

([12])مجموع الفتاوى (20/ 382)

([13]) مواهب الجليل في شرح مختصر خليل (6/ 317)

([14])المدونة (4/ 554)