الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
وإنّ للكرامة شهداء، وإنَّ للصعيد في خضم الأحداث إسهاماً وإدلاء، وليس ذلك بغريب ولا عجيب؛ فالصعيدي لا يملك في حياته أعزّ من الكرامة والإباء، ولعلها سمة المصريين على وجه العموم، غير أنّ الصعيد بقي على فطرته التي لم يغيرها ما تضفيه المدنية على الأحياء من زيف ورياء، سلمت أيديكم جميعاً أيها (الصعايدة) الأعزاء؛ فلئن كانت يد (عويس الراوي) قد طواها الفناء، فإنها لم تمض حتى أثبتت للعالم أنكم مختلفون عن كل من يدب على الغبراء أو يستظل بقبة السماء.
لقد كان حدثا بسيطاً وتلقائياً، وإنّ البساطة والتلقائية لهي سرّ الجمال، كل ما حدث أنّ ذلك الوغد الذي يضع على كتفيه خشبة مرصعة بالنجوم الزائفة، داهم بقواته الغادرة التى تسمى زورا ب(الداخلية) وهي في حقيقتها محتلة وخارجية، داهم بيتاً لأسرة بسيطة من أبناء الصعيد؛ لا لشيء إلا لأنّهم شاركوا غيرهم من أبناء الصعيد في المطالبة “سلمياً” بحقوقهم المسلوبة، وبينما كان ذلك الضابط (الفاتح!) يصول ويجول مزهواً بنصره لاحت لناظريه سيما الكرامة والشهامة في وجوه هؤلاء البسطاء؛ فلم تَرُقْ له، واعتبرها صفعة على قفاه وقفا الطاغية الذي استعبده؛ ومن ثمّ أرسل يده الآثمة بلطمة على وجه أكبر رأس في الأسرة (الأب).
والأب عند الصعايدة – ولو كان عَظْماً في (قُفَّةٍ) بالية – ليس أبا وحسب، وإنّما أبٌ ورمز مقدس، ولولا الإسلام والتوحيد لكان فوق الأبوة ربّا يعبد، فماذا تتوقع إذاً؟ لا تعقيد ولا حسابات ولا تردد ولا تلعثم، كان الجواب يفيض تلقائية وبساطة: صفعة مثلها بل أشد على وجه (العلج) اللئيم! وليكن ما يكون؛ فليس هناك بعد هدم المقدس ما يمكن أن نبكي عليه، ولعل عويس كان يدرك أنّ ثمن ذلك هو حياته، وقد كان؛ ففي الحال انهالت الرصاصات الجبانة على رأس (الولد ابن البلد) ليقضي شهيداً ويلحق بإخوانه الذين سبقوه في التحرير ورابعة؛ فيتلقوه بالبشرى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)) (آل عمران: 169-171).
لكن الرصاصات التي أردت عويس قتيلا لم تنجح – رغم دويها الثاقب – في أن تخفض من صوت اللطمة التي سددها على وجه الضابط وعلى قفا النظام المجرم الذي استعبده، مات عويس وَوُرِيَ التراب وسكن من حوله كل شيء بينما صوت الصفعة العبقرية الفذّة لازال يدوي في سماء مصر من الاسكندرية إلى النوبة، ويثير الدم في قلوب المصريين أجمعين، إنّها صفعة ستغير وجه التاريخ، أعني تاريخ الصراع بين شعب مظلوم مهضوم وبين نظام مجرم يحتل بلادنا بالوكالة.
لا تقولوا إنّ عويس الراوي مات، لأنّه لا يموت من أحيا في الناس معنىً لا قيمة لحياتهم إلا به، ولأنّ المعاني الكبار لا تحيا في الناس إلا بعد أن تُسقى بالدماء الزكية، ولأنّ الكرامة من تلك المعاني التي من أجلها طوى الثرى أجساد العظماء، ولأنّ الله تعالى كرم الإنسان وفطره على الحرية والكرامة، ولأنّ الإسلام العظيم هو الذي غرس فينا معاني العزّة والكرامة، فها هو القرآن يصرح: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) (الإسراء: 70).
لا تقولوا إنّه قد مات؛ لأنّه لو آثر العيش بعد أن رأى ما رأى لعاش عيش الأموات الذين يدبون على الأرض كما تدب العربات والآلات، وَلَمَاتَت الكرامة في قلب كل صعيديّ ومصريّ حرّ، ولَصَار الخنوعُ سنةً متبعة والإباءُ جريمةً منتقدة، لا تقولوا إلا الحقيقة: عاش الراوي وعاشت يد ميمونة هي عقل الراوي وقلبه وهي تاريخه الذي سطره؛ فخرق به القاعدة الظالمة التي أعلت من أقدار كثير من الأنذال لكونهم مشهورين وطمست كثيرا من الأحرار لكونهم مغمورين.
لله أنت يا عويس! لقد دخلت التاريخ من ذلك الباب الذي لا يدخل منه إلا الأحرار: باب الحرية، الذي عَرَّفه شوقي بشعره: (وللحريةِ الحمراءِ بابٌ … بكل يد مُضَرَّجة يُدَقُّ) وعَرّفْتَهُ أنت بيدك الميمونة، لقد دخلت التاريخ المجيد ولم تنل من الثقافة ما ناله كثير ممن خلفتهم لمزابل التاريخ، لقد تَسَنَّمْتَ قمة المجد وتركت في القاع خلقا نالوا النياشين والشهادات العليا والمشيخات؛ فما أغنت عنهم شيئاً إذ لا يرتفع بِنَيْلِ شيء من ذلك كُلِّهِ وَضِيع، ولا ينخفض بفقدها كلها شريفٌ رفيع، لقد كفرنا من بعدك بالألقاب، وصرنا لا نبالي بالطنين والطجيج مهما علا وأرغى وأزبد.
إنّني لعلى يقين من أنّ وقع هذه اللطمة سرى إلى قفا السيسي نفسه، فإنّ أول من يدرك خطر الرمزية في فعل الجماهير هو الطاغية، وإنّه ليعرف بالجبلة الطاغوتية أنّ بعد اللطمة ركلة وبعد الركلة ما بعدها مما يأتي صاعداً في دَرَجِ المواجهة، وإنّه لَيَعِي بطبيعته التي مُزِج فيها الجبروت بالجبن أنّ صوت اللطمة ورَنَّتها سيكون حداءً لعشاق الحرية، وسيكون أثره في الناس أقوى من آلاف الخطب ومئات الفضائيات؛ لذلك أقول غير متردد: إنّها لطمة تاريخية، بل حدث تاريخيّ كبير.
سيرحل السيسي كما رحل غيره، وسيرحل من بعده حكم العسكر، وسيبقى الحق الذي من أجله خلق الله السماوات والأرض وما بينهما والذي لولاه ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) (ص: 27).