ها هو عيدنا الأكبر، أقبل باسما، فنفث في المكان والزمان أثيرا ساحرا طاهرا، أثيرا يملك قدرة النور على تمزيق رداء الظلام، وقدرة الغيث على شق جدار الصمت الذي أرساه الموات، وأطلق في هذا الأثير العبقري أطيافا سابحة في لججه الرحيبة.
وليس غريبا – مادام التاريخ مليئا بالذكريات – أن تتزاحم الأطياف، وأن يموج بها الأثير، وليس عجيبا أن نجد أنفسنا في هذا الجو الذي يملي على الدنيا قانونه لا نملك إلا الاستسلام للأحكام والإصغاء للإملاء.
هذا طيف الخليل، وهو عائد إلى الشام بعد أن خلف وراء ظهره فلذة كبده وثمرة فؤاده، وتركه بين فكي الوادي القابع في قاع الصحراء والغارق في الصمت الأزليّ السرمديّ، ها هو بعد أن مضى ساعة يقف وكأنما تساوت في تلك اللحظة قوتان: قوة تجذبه بعاطفة الأبوة وحنينها، وقوة تدفعه وتلزمه بالمضي في الوجهة التي أمره اللَّـه تعالى بها، ها هو يرفع يديه إلى السماء داعيا راجيا: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ}.
وإذا كان التاريخ قد شهد بأنّ الإنسانية قد اختزلت في بيت إبراهيم عليه السلام؛ حيث إنه البيت الوحيد الذي لم يقتلعه طوفان الجاهلية آنذاك؛ فإنه بالإمكان أن نقول إن الإنسانية قد تعذبت كثيرا من أجل أن تسكن البذرة الطيبة في التربة المباركة؛ لتتمخض بعد حين من الدهر عن الدوحة العظمى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}.
إن إبراهيم عليه السلام لم يأت إلى هذا المكان إلا لمهمة واحدة محددة، هي غرس البذرة الطيبة “إسماعيل” في التربة المباركة “مكة”، ولم تكن تلك التجربة الإنسانية الفذة التي قام بها إنسان وصفه القرآن بأنه أمّة – لكونه قد اختزلت فيه الإنسانية آنذاك – إلا ستارًا لقدرة اللَّـه وحكمته، الذي شاء أن يخرج إلى الإنسانية خير أمة وخير نبي؛ لذلك روى القرآن الكريم دعاءهما وهما يرفعان القواعد من البيت: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
أرأيتم إلى أي مدى في أعماق الوجود تمتد جذورنا؟! وإلى أيّ مستوى من الشرف يرتقي نسبنا؟! {إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذينَ اْتَّبَعُوهُ وهذا النَّبِيُّ والَّذينَ آمَنُوا واللهُ وَلِيُّ المُؤْمِنِين} ذلك لننفض الوهن والحزن؛ {ولا تَهِنُوا ولا تَحْزَنُوا وأَنْتُم الأَعْلَوْن} ونخرج من حال التيه والضياع إلى حيث نأخذ موقعنا اللائق بنا على هذا الكوكب، ونقوم بواجبنا المنوط بنا في هذي الحياة؛ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ للنَّاس}.
وإذا كان وضع البذرة الأولى للأمة الإسلامية قد استلزم من الإنسانية هذه المعاناة؛ فإن وضع اللبنات الأولى للدين الإسلامي قد استلزم من الإنسانية معاناة أشد، فلقد جاء إبراهيم ـ الذي اختزلت الإنسانية فيه آنذاك ـ جاء ثانية إلى البقعة المباركة، لا ليترك ولده فريسة الوحشة، وإنما ليسلمه بحد شفرته إلى حتفه ونهايته، ومثلما كانت التجربة الأولى بأمرٍ سماويٍ، كانت هذه الأخرى بأمرٍ سماويٍ، ولم يكن أمامه إلا المضيّ.
ومضى إبراهيم إلى منى يحمل في يده المدية، ويحمل في قلبه خنجرًا نافذًا، ومضى على أثره الغلام لا يلوي على شيء، ولا يرى الجرح النازف في قلب أبيه.
وما لبثا أن وصلا إلى الساحة التي شهدت المعجزة، يقف الشيخ (الأمة)، ويقف أمامه الغلام (البذرة الطيبة)، وبلا أدنى تلعثم أو تردد يتلو الأب على ابنه أمر الإله: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى}، وهنا يسكن نبض الوجود، ويرهف الكون سمعه: ماذا عسى أن يكون جواب الغلام؟ وكانت المفاجأة التي فجرت صبح الإسلام: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ}، عندئذ كان حجر الأساس لدين الإسلام قد أرسي
على نفس التربة التي وُضِعَت فيها البذرة الأولى للأمة الإسلامية.
إن جوهر الإسلام ولُبَّه ليس إلا الاستجابة لأمر الإله مهما تعارضت معه رغبة النفس، ومهما بدا للنظرة السطحية أنه مخالف للمصلحة، أو مناقض للمنطق.
ولا تزال الأمة الإسلامية تحيي ذكرى هذا الحدث الأم؛ لتتذكر دوما وهي تذبح الهدي والأضاحي في صبيحة العيد أن اللَّـه عز وجل قد امتن على الإنسانية بهذا الفداء الذي نزل من السماء، وبهذا الحدث الباهر الذي كرس في ضميرها معنى الإسلام، الذي هو الاستسلام والانقياد والإذعان للَّه الواحد الديان.
ويسبح طيف إبراهيم وإسماعيل وهاجر في الأفق البعيد؛ لتظهر لنا صورة الحجيج، وهم يقفون بعرفات ويرمون الجمرات ويطوفون بالبيت ويسعون بين الجبلين الكريمين: الصفا والمروة.
إن هذه الشعائر الكبار التي تمضي فيها الأمة على أثر النبي الأمة – إبراهيم عليه السلام – لتنطوي على دروس كبار، لا يسع الأمة إلا أن تتلقاها وتتملاها، وإلا كان حجها مجرد رسوم تؤدى، وطقوس يغلب عليها الشكل وينضب فيها المضمون.
إن وقوف الحجيج بعرفات – وهم وفد الأمة الإسلامية وممثلوها في حضرة الملك الجليل – ليس مجرد وقوف للدعاء والذكر والتلبية في مكان اختاره اللَّه لهم، وإن كان هذا مقصودا، وإن كانوا مأجورين عليه ولو لم يستوعبوا منه الدرس الكبير، ولكنه وقوف الامتثال.
إن امتثال الأمة الإسلامية لأمر ربها لكي يكتمل يلزمه أن تقف الأمة حيث أوقفها اللَّه؛ لئلا تتجاوز – في غمرة الانطلاق – حدود اللَّـه، وفي مقدمة الأمور التي يجب أن تقف عندها حيث أوقفها اللَّه أمر التشريع، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
وإن السعي بين الصفا والمروة لمن أجَّل الأعمال التي تكرس في الأمة الإسلامية معنى الاتباع، الاتباع بمعناه الواسع الأصيل، الذي لا يمكن أن ينحصر في طوق الاصطلاح الفقهي الأصولي المتأخر، الاتباع الذي عناه القرآن بلفظه العربي الرحيب العميق: { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ}، {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}.
إن اندفاع بعث الأمة ووفد اللَّه في المسعى خلف طيف أمهم هاجر ليؤكد للدنيا أن هذه الأمة أمة متَّبِعة، لها طريقها الذي تمضي فيه خلف رموزها، ولها دستورها الذي يرسم لها طريقها ويضع لها على جانبيه المعالم البارزة، وليست بحاجة إلى قدوة من هنا أو أسوة من هناك، وليست مفتقرة إلى من يعرفها طريقها أو يفسر لها دينها، إنها أمة متَّبِعة، لها رموز انغرست في ضمير الوجود ووقفت فيه صامدة تحمل مشاعل المنهج الرباني؛ فلم يستطع أن يحلحلها مر الدهور وكر العصور؛ ومن ثمَّ فلا اغترار بمناهج الفجار، ولا بوعودهم، ولا بما يطرحونه من حلول لقضايانا.
وإن رمي الحجرات الذي تتدافع فيه الأمة ويزحم بعضها بعضا ويركب بعضها بعضا، ليس إلا حركة ظاهرة بارزة تجسد حركة النفس وهي ترفض الباطل وتهدم الفساد، وتكفر بالطاغوت كله، الحركة التي يتمثل فيها الدفع الخلفي: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا}؛ إنّها التربية الإيمانية التي تخلق نفساً نزاعة للحرية، تواقة للانعتاق من قيود الظلم والفساد والاستبداد.
أما طواف الأمة بالبيت العتيق، فهو محاكاة لكل مجموعة متماسكة في هذا الكون، وسير على السنن العام لهذا الوجود، فدوران النسمات المسلمة حول الكعبة في نفس الاتجاه الذي تدور فيه الجسيمات الصغيرة حول نواة الذرة، وتدور فيه الكواكب العملاقة حول الشمس، في عكس اتجاه عقارب الساعة، إن هذا الدوران حول المحور الثابت لهو السبب الأصيل في تماسك الكون كله من الذرة إلى المجرة، وإن طواف المسلمين حول الكعبة ليرمز إلى هذا التماسك الضروري الذي لا يتحقق إلا بأمرين: الاجتماع والاتباع؛ الاجتماع الذي يمثله الطواف، والاتباع الذي يمثله وقوع هذا الطواف مشدودا إلى قطب واحد ومحور واحد، وإنه المعنى الذي يكرسه قول اللَّـه عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}؛ فهل نعجز عن تحقيق ذلك ولو بالحد الأدنى الذي يتمثل في حسن إدارة الاختلاف؟ وما الذي يمنعنا من ذلك؟ أهو الهوى والشهوات الخفية، أم هو التعصب المقيت والأهواء الحزبية؟
وها هو طيف إمام المرسلين وخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم وهو على منبره السَيَّار – ظهر القصواء – يخطب في الأمة الإسلامية من منى ومن عرفات، وهاهو التاريخ يذيع ويبلغ:
(فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) .. (فاتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله) .. (وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله).
إن هذه الكلمات ليست مواعظ متفرقة، كيف وهي نصوص ومواد الكلمة الختامية التي ودع فيها الرسول أمته، إنها اللمسات الأخيرة للدوائر الثلاثة: دائرة الأسرة، ودائرة المجتمع، ودائرة الدولة، فالأسرة لا صلاح لها إلا بقيام العلاقة بين قطبيها على الخير، الذي يبدأ بغرس أصوله ومن جذوره رب الأسرة ومسئولها الأول: (فاتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله).
والمجتمع لا صلاح له إلا بأن تُصان حرمة الأموال والدماء والأعراض: (فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا).
والدولة لا صلاح لها ولا رشاد إلا بأن تكون مرجعيتها الوحيدة: كتاب اللَّـه، وسنة رسول اللَّـه صلى الله عليه وسلم: (وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله).
بهذه المعاني ندرك أن فضل اللَّـه علينا عظيم، ونفرح بذلك: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}.. ومن أجل هذه الدروس الكبار نكبر: اللَّـه أكبر .. اللَّـه أكبر .. اللَّـه أكبر .. لا إله إلا اللَّـه .. اللَّـه أكبر .. اللَّـه أكبر .. ولله الحمد.