ربما لا يراها ثورة من نظر إليها من منظور المؤرخين الذين يسجلون الأحداث دون أن يكون لهم عناية بالأفكار التي تواكب الأحداث ويكون لها دور كبير في صناعتها. ولو أنَّنا لم نأخذ في الاعتبار إلا ذلك التحول الهائل في نظام الحياة الاقتصادية في المدن الإيطالية، لما ساغ لنا أن نَعُدَّ ما جرى فيها ثورة، فضلا عن أن نَعُدهُ فجر الثورات الأوربية قاطبة ومنبعها.
والذي جرى – كنتيجة لوجود المدن الإيطالية قرب طريق التجارة العالميّ – أن “أبناء الطبقة البرجوازية (سكان المدن) كانوا قد تعودوا على أن يحققوا أرباحا طائلة بأساليب رائعة، أكثر من اعتمادهم على القوة؛ وبذلك حققوا نوعا معقولا من الحياة السوية، وكان منهم من اشتغلوا كمستشارين للملوك أو موظفين ورجال مال، وساعدوا على إحلال النظام النقدي محل النظام الاقتصاديّ القديم المعتمد على الأرض الزراعية، فتحول نظام الحياة تحولا هيأ الأرض لتغيرات كبيرة.
وفي منتصف القرن الثاني عشر كانت موجات من التَّغَيُّر الجذريِّ في طبيعة الحياة قد ضربت مدن شمال إيطاليا، وظهر في تلك المدن فكر يدعو إلى الحرية ويراها متمثلة قبل كل شيء في الاستقلال السياسي عن الإمبراطور، وفي الحق الأصيل لكل مدينة أن تضع لنفسها نظام الحكم الذي ترتضيه. صاحَبت هذا الفكر ممارسات عملية واقعية لحكم ذاتي في تلك المدن، وكان أبرزها ميلان وسائر مدن “لومبارديا”، مما استدعى الإمبراطور فريدريك بارباروسّا أن يهاجم تلك المدن بغرض إخضاعها له، وقد شجعه على ذلك الطمع فيما كانت تتمتع به تلك المدن الصاعدة اقتصاديا. وقد نجح في بداية الأمر، ثم ما لبثت المدن أن تحالفت ضده؛ ونجحت في هزيمته بعد ذلك، ولما جاء فريدريك الثاني قام بنفس ما قام به سلفه، وانتهى أمره إلى ذات المصير بعد أن توسع الحلف وانضمت إليه مدن أخرى أبرزها في الصراع فلورنسا.
وقد ساهم الفيلسوف القانوني بارتولوس في إضفاء الشرعية على ما قامت به تلك المدن، حيث خرج من الجدلية العقيمة لمفسري القانون الروماني إلى أفق قانوني جديد، وذلك بنظريته القاضية بأنَّ القانون يجب أن يتكيف مع الوقائع الجديدة التي أخذت حكم الواقع المستقر، ومن ثم أعطى الحق كاملا للمدن الجديدة أن تضع لنفسها القانون الذي ينظم حياتها؛ استنادا على كونها واقع فرض نفسه من زمن، وقرر ذلك في تعليقه على قانون “جستنيان” الذي يفرض من الإمبراطور الروماني حاكما للعالم. ومن هنا ولدت فكرة مدنية الحكم؛ تابعة وتالية لحكم المدن المستقلة التي قامت في شمال إيطاليا، تلك الفكرة التي مثلت الشرارة التي انطلقت بعد ذلك إلى غرب أوروبا.
وكان من أهم رجـال الفكر في تلك المرحـلة: تومـا الإكويني، وألبرت الكبير، وجون ساليسبري، والشاعر الشهير دانتي. ومنهم كذلك مارسيليو بادوا الذي ألف كتابه الشهير: “المدافع عن السلام” الذي تأثر فيه بفكر ابن رشد وبفلسفة أرسطو، واعتبر أن المسيحية دين إعجازي غير قابل للمناقشة العقلية؛ ومن ثمَّ فلا يصح الزجُّ به في مسائل العقل والمنطق ولا في شؤون السياسة والحكم.
أمَّا بترارك؛ فكان أبرز المفكرين الإنسانيين الذين تأثروا بفكر الرواقيين ونقلوا كتابات شيشرون إلى اللاتينية، واستطاعوا أن يتخلصوا من قيود الفكر الكنسي الأغسطينيّ. وكان بترارك محاميا في إحدى المدن الإيطالية، ونفي منها على أثر خلاف قضائيّ. وفي منفاه درس القانون ثم درس فكر شيشرون وغيره من القدماء، وبرع في الشعر وتغزل في محبوبته “لورا”، ووصف الطبيعة، وانتقد الكنيسة ورجال الدين، ودعا إلى الحداثة وإلى حق الإنسان في الاستمتاع بالحياة الدنيا، وتنقل من بلد لآخر في فرنسا وألمانيا وإيطاليا، فكان لشعره الرقيق أثر بالغ في النهضة وفي إحياء الشعور بالحرية والإنسانية حتى قيل إنه أبو النهضة الحديثة.
ولا ريب أن فكر الرواقيّين الذي أحياه الإنسانيون في عصر النهضة، وقانونهم الطبيعي الذي بُعِث من جديد على أيديهم، هو الأصل الذي اتكأ عليه كل من كتب في أوروبا في العصر الحديث عن الحريات وحقوق الإنسان والإخاء الإنسانيّ. وإلى جانب الشعر الذي فشا بسرعة، ساعد ظهور فن النثر والخطابة في نهايات القرن الثالث عشر وبدايات القرن الرابع عشر على انتشار مبادئ الحرية، وساههم في صناعة أيديولوجيا كانت المدن المناضلة ضد الطغاة الذين صعدوا مؤخرا في أمسّ الحاجة إليها.
ولا ريب كذلك أنّ تحالف المدن الشابة مع الكنيسة ضدّ الإمبراطور برغم كونه اضطراريا، إلا أنّه كان مدخلا لظهور موجة من موجات الثورة المضادة، فإنه بعد حسم الصراع مع الإمبراطور لصالح المدن الجديدة استفحلت مطامع الكنيسة، مما كان له أثره في انزعاج تلك المدن التي تحول صراعها ليكون ضدَّ الكنيسة، حتى قامت ثورات في فلورنسا ومدن لومبارديا وتوسكانيا وغيرها ضد التسلط البابويّ الذي بلغ منتهاه بعد إحرازه نصرا كبيرا على السلطة الزمنية، مما كان له أثره على عدم صمود الأيديولوجيا السيكولاستيكية التي حاولت الوفيق بين الفكر الإنسانيّ والفكر الأغسطينيّ؛ لتنطلق النظرية الإنسانية خالصة من علائق الفكر الكنسيّ وعقده.
ولكي ينمّي الإنسانيون طاقة الشجاعة، استعادوا الأسطورة الكلاسيكية الرومانية القديمة التي تجعل للحظ إلهة تدير دولاب الحظ للخلق على حسب هواها، لكنها ليست دائما متصلبة، وإنما هي تلين وتدين للرجل الشجاع، وهي بالطبع مخالفة للمسيحية الأوغسطينية، إلا أنّها غذّت الشعور بضرورة خوض الصراع المحتوم بين طموح الإرادة وعناد الحظ.
والحل الذي اقترحه الإنسانيون في فلورنسا وغيرها في أوائل القرن الرابع عشر؛ اتخذ صورة إحياء المثال الأعلى الذي تمثل في أن يكون المواطنون مسلحين ومستقلين، وهو المثال الأعلى الذي امتدحه أرسطو في الكتاب الثالث من كتاب السياسة، وقالوا بوجوب الدفاع عن فلورنسا وسائر المدن، وأن يكون حكمها من قبل رجال يكونون مستعدين – لا لتقديم مهاراتهم السياسية فقط – بل وتقديم حياتهم عند الضرورة، بغية الحفاظ على الجمهورية وحريتها.
ونحن – وإن كنّا نختلف مع كثير من الأفكار التي قامت عليها هذه الثورة الملهمة – نرى العبرة الأساسية تتمثل في ضرورة الأيديولوجيا الواضحة، المنتزعة من ثقافة الأمَّة وحضارتها وتراثها، مع أننا نتفق معهم في حقيقة الأمر في كثير من الأفكار المتعلقة بالحريات وحقوق الإنسان والإخاء الإنسانيّ وسائر الأفكار الفطرية المنبعثة من الضمير الإنساني التواق بطبيعته للخير والجمال. وأهم الدروس بعد حتمية الأيديولوجيا هو ضرورة التخلص من عقابيل القوانين والنظم، فما فعله بارتولوس ملهم في هذه النقطة، يضاف إليه مبدأ القوة اللازمة للتغيير الحقيقيّ.
إنَّ هذه التجربة الفذّة جديرة بالقراءة المتأنية، ومن الغفلة والتدليس أن نغفلها أو نهملها ونحن نتناول التجارب التاريخية بالدراسة والاستمداد؛ لأنها في الحقيقة تعد فجر الثورة، كما يعد الربيع العربي وما سبقه من حركات تحررية وجهادية وما صاحب ذلك من فكر تحرري إسلامي فجر الثورة الكبرى التي لم تكتمل فصولها بعد.
وإنّه لمن الخطأ والتزوير أن ننظر إلى الخامس والعشرين من يناير منفصلا عن الربيع العربي كله، أو ننظر إلى الربيع العربي على أنَّه المبدأ والمنتهى. فالحقيقة أنّه لا يمثل – بما تقدمه من احداث وما تلاه من إخفاقات – إلا فصلا من فصول الصراع الذي بدأ من فترة طويلة، وسوف يمتد ليكمل السياق الكبير سياق التحول الحضاري الهائل القادم بإذن الله.