فقه الجهاد تجديد واجتهاد (8): حكم جهاد الغزو (القسم الثاني)

وجوب جهاد الطلب هو وجوب ابتداء الدول الكافرة بالقتال حال الاستطاعة والقدرة، وذلك بعد البلاغ والبيان والدعوة، حتى ولو لم يقع منها عدوان ظاهر على المسلمين، والأدلة على ذلك متوافرة ومتضافرة، وها هي أهم هذه الأدلة:

الدليل الأول: أن الله تبارك وتعالى أمر المؤمنين في محكم كتابه – في آيات محكمة لم تنسخ – أمراً صريحاً واضحاً بقتال جميع أصناف الكفار، وجعل لهذا القتال غايةً ليست هي مجرد رجوع المعتدين عن عدوانهم، ولا مجرد حماية الأرض والذب عن العرض، ولا حتى مجرد حماية الدعوة والدعاة، وإنما هي إنهاء الفتنة، والفتنة الكبرى التي ترعى كل الفتن هي سيادة الكفر والشرك، فيكون إنهاء هذه الفتنة بإنهاء الكفر والشرك أو إنهاء سلطانهما، وإدخال الناس في الإسلام أو في الطاعة لسلطان دولة الإسلام؛ وهذا يعني أن الأمةَ الإسلاميةَ مفروضٌ عليها الجهادُ ابتداءً، وأن عليها أن تطلب الأمم الكافرة بالجهاد وأن تبتدئها بالقتال؛ لأن هذه الغايات من شأنها ألا تتوقف على ردود أفعال، وألا تنتظر وقوع العدوان من المستهدفين بها.

وها هي الآيات:

1- قول الله تعالى من سورة البقرة: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ﴾ [البقرة: 193]. وقوله تعالى في سورة الأنفال: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾ [الأنفال: 39-40]. فقد أمر الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين في هاتين الآيتين بقتال الكافرين إلى غاية هي: ألا تكون فتنة، وأن يكون الدين لله، ومعنى ألا تكون فتنة، أي: ألا يكون شرك أو كفر، وهذا المعنى مروي عن جمّ غفير من السلف من الصحابة والتابعين[1]، ومعنى قوله تعالى: يكون الدين لله أي يكون التوحيد خالصا لله وتكون العبادة خالصة لله، ويدخل الناس في (لا إله إلا الله)، وهذا المعنى مروي عن جمع كبير من السلف من الصحابة والتابعين أيضاً[2]، ولم يرد عن أحد من السلف ما ينقض ما ورد في المعنيين.

ومعنى قوله تعالى: “فإن انتهوا” قال الطبري: «يعني تعالى ذكره بقوله: «فإن انتهوا»: فإن انتهى الذين يقاتلونكم من الكفار عن قتالكم، ودخلوا في ملتكم، وأقروا بما ألزمكم الله من فرائضه، وتركوا ما هم عليه من عبادة الأوثان، فدعوا الاعتداء عليهم وقتالهم وجهادهم، فإنه لا ينبغي أن لا يعتدي إلا على الظالمين وهم المشركون بالله، والذين تركوا عبادته وعبدوا غير خالقهم»[3].

وما فهمه الطبري هو ما فهمه غيره من المفسرين، قال القرطبي: في معنى قوله تعالى:«فإن انتهوا»: أي: عن الكفر: إما بالإسلام كما تقدم في الآية قبل أو بأداء الجزية … »[4]، وقال الإمام البغوي: «فإن انتهوا»: عن القتال والكفر[5]، وقال في موضع آخر «فإن انتهوا»: عن الكفر وأسلموا[6]، وقال الإمام أبو السعود «فإن انتهوا»: عن القتال والكفر[7]، وقال الزمخشري «فإن انتهوا»: عن الشرك والقتال[8]، وقال في موضع آخر «فإن انتهوا»: عن الكفر واسلموا[9].

2- قول الله تعالى من سورة براءة.

﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 5].

هذه الآية من سورة التوبة نزلت في العام التاسع من الهجرة؛ وأرسل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ضمن الآيات الأولى من السورة إلى أبي بكر في مكة ليتلوها على الناس في موسم الحج، قال ابن عباس: حد الله للذين عاهدوا رسول الله أربعة أشهر يسيحون فيها حيث شاءوا، وحد أجل من ليس له عهد انسلاخ الأربعة الأشهر الحرم من يوم النحر إلى انسلاخ المحرم خمسين ليلة، فإذا انسلخ الأشهر الحرم أمره أن يضع السيف فيمن عاهد إنْ لم يدخلوا في الإسلام[10]، وسياق الآية يدل على أن الغاية التي ينتهي عندها القتال هي الدخول في الإسلام، فقوله عز وجل: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ﴾ [التوبة: 5].

3- قوله الله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: 29]، ومعنى هذه الآية واضح الدلالة في تقرير حق الدولة الإسلامية في قتال دار الحرب ابتداء حتى يخضعوا لسلطان الدولة الإسلامية ولقانونها العام.

4- ﴿فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾ [محمد: 4]، قال ابن جرير: “أي حتى تضع الحرب آثامها وأثقال أهلها المشركين بالله بأن يتوبوا إلى الله من شركهم فيؤمنوا به وبرسوله ويطيعوه في أمره ونهيه”[11].

ولا يصح أن يقال إن هذه الآيات مطلقة، والآيات التي تأمر بقتال من قاتل دون من لم يقاتل مقيدة؛ فيحمل المطلق على المقيد ويفسر به، لا يقال هذا؛ لأن السبب في الآيات المقيدة – على قولهم – هو رد العدوان وفي الآيات المطلقة هو محو الشرك والكفر والتمكين لدين الله، وقد اختلف العلماء في حمل المطلق على المقيد إذا اتفق الحكم واختلف السبب، فقال الحنفية كافة ومعهم أغلب المالكية بعدم الحمل[12]، وكذلك لا يصح الحمل لأن من شروط حمل المطلق على المقيد ألا يمكن الجمع بينهما إلا بحمل المطلق على المقيد[13]، وهنا يمكن حمل المقيد على المرحلة الثالثة من مراحل تشريع الجهاد وحمل المطلق على المرحلة الرابعة، فلا تعارض إذا قلنا إن الله أمر بقتال من قاتل دون من لم يقاتل في مرحلة الاستضعاف، ثم أمر بقتال الجميع في مرحلة القوة وعز والإسلام، ومن الشروط أيضا ألا يكون المقيد ذكر معه قدر زائد يمكن أن يكون القيد لأجله[14]، والمقيد هنا ذكر معه قدر زائد وهو العدوان، فالذين أَمَرَنَا الله بقتالهم في المرحلة الثالثة يشتركون مع سائر الكفار في الكفر والشرك، ولكنهم يزيدون عنهم أنهم بادروا بالعدوان، فجاء القيد في هذه المرحلة لأجل هذا القدر الزائد؛ فلا يحمل المطلق هنا على المقيد.

الدليل الثاني: جملة من الأحاديث تدل على ما دلت عليه الآيات السابق ذكرها، حيث يأمر فيها النبي صلى الله عليه وسلم بالغزو حتى يدين الناس بالإسلام أو يدينوا لدولة الإسلام بدفع الجزية، وبالقتال حتى يشهد الناس ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويبين فيها أن الجهاد ماض إلى يوم القيامة.

فمن هذه الأحاديث:

1- عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ»[15].

2- عن انس بن مالك مرفوعا: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا وَصَلَّوْا صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا، فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ»[16].

3- عن سليمان ابن بريدة عن أبيه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال: «اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ اغْزُوا، وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تُمَثّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ، فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا، فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ، فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ، فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلَا ذِمَّةَ نَبِيِّهِ وَلَكِنْ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ، فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا ؟»[17]

4- عن جبير بن نفير عن سَلَمَةَ بْنِ نُفَيْلٍ الْكِنْدِيِّ، قَالَ : كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَذَالَ النَّاسُ الْخَيْلَ، وَوَضَعُوا السِّلَاحَ، وَقَالُوا : لَا جِهَادَ قَدْ وَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِوَجْهِهِ، وَقَالَ: ” كَذَبُوا الْآنَ الْآنَ جَاءَ الْقِتَالُ، وَلَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ، وَيُزِيغُ اللَّهُ لَهُمْ قُلُوبَ أَقْوَامٍ، وَيَرْزُقُهُمْ مِنْهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، وَحَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ، وَالْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ يُوحَى إِلَيَّ أَنِّي مَقْبُوضٌ غَيْرَ مُلَبَّثٍ، وَأَنْتُمْ تَتَّبِعُونِي أَفْنَادًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، وَعُقْرُ دَارِ الْمُؤْمِنِينَ الشَّامُ»[18]

4- عَنْ أَنَسٍ مرفوعا: «جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ»[19]

5- عن أبي هريرة مرفوعا: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ»[20]

6- عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عنه، قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشِعْبٍ فِيهِ عُيَيْنَةٌ مِنْ مَاءٍ عَذْبَةٌ، فَأَعْجَبَتْهُ لِطِيبِهَا، فَقَالَ: لَوِ اعْتَزَلْتُ النَّاسَ فَأَقَمْتُ فِي هَذَا الشِّعْبِ، وَلَنْ أَفْعَلَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ : “لَا تَفْعَلْ، فَإِنَّ مُقَامَ أَحَدِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ سَبْعِينَ عَامًا، أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَيُدْخِلَكُمُ الْجَنَّةَ ؟ اغْزُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ»[21]

7- عن معاوية بن قرة قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَهْبَانِيَّةً، وَإِنَّ رَهْبَانِيَّةَ أُمَّتِي الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»[22].

فهذه الأحاديث تدل على وجوب جهاد الطلب، فالحديثان الأول والثاني يضعان للقتال الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم غاية هي الإسلام وما يدل على صدق الدخول فيه من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والتسليم لمنهج الله في الحلال والحرام، فليست الغاية إذاً مجرد دفع العدوان أو الدفاع عن النفس؛ ولهذا استدل العلماء بهذا الحديث على الهدف والغاية من قتال الكفار قال: ابن رشد: «وإنما يقاتل الكفار على الدين ليدخلوا من الكفر إلى الإسلام لا على الغلبة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله»[23].

والأحاديث من الثالث إلى السادس تأمر بالغزو والجهاد، والغزو هجوم وليس دفاعاً، ولا يفهم من الأمر بالغزو إلا الهجوم، ويؤكده قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الثالث: وإذا حاصرت أهل حصن، وفي الحديث الثالث ما يبين سنة الأمة مع الأمم الكافرة، وهي تخيير الأمة الإسلامية للأمم الكافرة بين ثلاث لا رابع لها: أن يسلموا أو يدفعوا الجزية وهم صاغرون أو القتال، وفي الحديث السابع بيان أن الجهاد عبادة الأمة ورهبانيتها، ولا يكون كذلك إذا كان القتال لم يشرع إلا لرد العدوان.

الدليل الثالث: إجماع العلماء على أن جهاد الطلب واجب على الأمة وجوباً كفائياً، قال ابن عطية: «والذي استمر عليه الإجماع أن الجهاد على كل أمة محمد صلى الله عليه وسلم فرض كفاية فإذا قام به من قام من المسلمين سقط عن الباقين إلا أن ينزل العدو بساحةٍ الإسلام فهو حينئذ فرض عين»[24].

وليس مع من يقول بأنّ الجهاد لم يشرع إلا لرد العوان ما يصلح متكأً لقولهم؛ فأمَّا قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [البقرة: 28] فالذي رجحه كثير من المفسرين هو أن السلم هو الإسلام، فيكون معنى الآية: يأيها الذين آمنوا ادخلوا في كافة شرائع الإسلام[25]، وخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه[26]، وممن قال بأن السلم هو الإسلام: ابن عباس ومجاهد وطاووس والضحاك وعكرمة والسدي وابن زيد، وقال أبو العالية والربيع ابن أنس (السلم): الطاعة، وهو قريب من القول السابق، وقد رجح هذا القول ابن جرير الطبري[27]، وقول الله تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ [الأنفال: 61] لا يدل على ماذهبوا إليه؛ وإلا فما القول في قوله تعالى: ﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾[محمد: 35]؟ وفي آيات السيف من سورة التوبة؟

إن أحدا من المفسرين لم يقل بهذا المعنى الذي ذهبوا إليه، وجميعهم ما بين قائل بأنها منسوخة بآيات القتال من سورة التوبة[28]، وقائل بأن المسلمين إن كان بهم قوة عملوا بقوله تعالى: ﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ﴾، وإن كان بهم ضعف أو كان لهم في ابتداء الصلح منفعة عملوا بقوله تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾، وقائل – وهو الراجح – بأن السلم التي إن جنحوا إليها وجب على المسلمين أن يجنحوا إليها هي دخولهم في الإسلام أو قبولهم بالجزية[29]، قال الطبري: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾: وإن ما لوا إلى مسالمتك ومتاركتك الحرب إما بالدخول في الإسلام وإما بإعطاء الجزية وإما بموادعة ونحو ذلك من أسباب السلم والصلح فاجنح لها[30].

وأمَّا قول الله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [البقرة: 190] ليس معناه قصر الحرب على رد العدوان، وعدم التوجه بالقتال إلا لمن قاتل واعتدى؛ وإنما معنى قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ [البقرة: 190] لا تقاتلوا إلا من يقاتل وهم الرجال البالغون أما النساء والذرية والرهبان فلا يجوز قتالهم لأنهم ليسوا من أهل القتال، وهذا تفسير قوي يؤيده نهي النبي صلى الله عليه وسلم في آثارٍ شائعةٍ عن قتل النساء والولدان وأصحاب الصوامع[31].

ومعنى قوله تعالى (ولا تعتدوا): لا تقاتلوا على غير الدين، ولا تقاتلوا إلا من قاتل وهم الرجال البالغون دون النساء والذرية والرهبان، وعلى هذا فلا يعني الاعتداء المنهي عنه قتال دار الإسلام لدار الحرب، لأن هذا القتال قتال على الدين أي لإقامة شرع الله في هذه الدار دار الحرب، ولأن المسلمين في قتالهم يستعملون حقا لهم أو يقومون بواجب عليهم وهو إزالة المنكر والفساد من الأرض المتمثل بهذه الكيانات الباطلة “دار الحرب”، ومن استعمل حقا له أو قام بواجب عليه لا يصح وصفه بالاعتداء[32].

  ولا جدال في أن وسائل القهر والإكراه ليست من طرق الدعوة إلى دين الله، ولكن مَنْ قال إن الجهاد في سبيل الله تعالى يهدف إلى إكراه الناس على الدين أو حملهم بالقهر على العقيدة، إن الجهاد في سبيل الله يهدف إلى إزالة الإكراه الذي تمارسه الإمبراطوريات الشريرة، وإلى إتاحة حرية العقدية للناس؛ وذلك بكسر عمود فسطاط الباطل، وإسقاط الطاغوت الذي يحول دون حرية العقيدة فإذا ما خر على عروشه وتحرر الناس من سجنه قيل لهم: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي).

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تتمنوا لقاء العدو» لا يفهم منه النهي عن ابتداء الكفار بالقتال؛ وإلا كان معارضا لآيات التوبة المحكمة، ولذلك حمله كافة شراح الحديث على معاني بعيدة كل البعد عن الدعوة إلى الانعزال وترك القتال، فقالوا: أمر بترك التمني لما فيه من التعرض للبلاء وخوف اغترار النفس إذ لا يؤمن غدرها عند الوقوع[33]، وقيل غير ذلك، وجميع ما قيل في شرح هذا الحديث بعيد تماما عن ذلك الذي ذهب إليه هؤلاء المتكلفون.

وليس هناك تعارض بين أن يأمر الله عباده بأن يخرجوا لجهاد الأمم الكافرة حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله، وبين أن ينهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن تمنى لقاء العدو، لأن الأمر الأول تكليف بواجب، والثاني تربية لنفس هذا المكلف بالواجب، ولأنه بالإمكان أن يتمنى الخارجون عدم لقاء العدو، كأن يسلم العدو إذا علم بمسير المسلمين إليه فيعفي المسلمين من اللقاء المسلح، وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم فاتحا وهو يتمنى ألا يحدث صدام مسلح في مكة، والذي يدل على أمنيته هذه أنه اتخذ كافة التدابير لذلك، وعندما وقعت مواجهة من خالد قال:«اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد».

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «دعوا الحبشة ما ودعوكم واتركوا الترك ما تركوكم»، استثناء من القاعدة العامة في قتال الناس جميعا؛ علته التخفيف عن الأمة الإسلامية، وسبب هذا التخفيف هو خوف النبي صلى الله عليه وسلم على أمته؛ لأن الحبشة بلاد وعرة مهلكة وبينها وبين المسلمين بحار وقفار، ولأن الترك بلادهم بعيدة وشديدة البرد والعرب هم جند الإسلام يخشى عليهم من الإفناء [34]، ولم يقصد النبي صلى الله عليه وسلم الترك الدائم؛ لذلك قال: «ما ودعوكم»، «ما تركوكم»، أي : اتركوهم في أول الأمر وهي المدة التي سـيتركونكم فيهـا، والذي يدل على ذلك ويؤكده أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن المسلمين سيقاتلون الترك فقال: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا التُّرْكَ»[35] وقد قاتلهم المسلمون في عقر دارهم وفتحوا بلادهم وأدخلوهم في دين الله.

ولو صح أن الأمة الإسلامية لم تقاتل إلا لرد العدوان – وهذا بعيد – لحقَّ لسائل أن يسأل: وما هو السبب الذي بعث الأمة في صدر الإسلام إلى الغزوات والفتوح وإلى قتال كل أمم الأرض وإسقاط الإمبراطوريات العظمى الواحدة تلو الأخرى؟ لماذا فعلت الأمة هذا بالإجماع في قرونها المفضلة الأولى؟ أيكون الجواب أنهم استغرقوا مع ملابسات هذا الصدام استغراقا أنساهم احترام النص وتقديره، وأذهلهم عن طبيعة هذا الدين وعن خطته؟! معاذ الله! وحاشاهم!

ومن الخطأ الفاحش أن نقول: إنه لولا تحرك الجاهلية ضد الأمة الإسلامية، ولولا تحرش الكفار بالمسلمين لما وقعت الحرب أصلا؛ لأن هذا القول – على ما فيه من تجاهل للنصوص القرآنية وتغافل عن واقع البشر – ينطوي على مغالطة جذرية، وهي البناء على فرضية خيالية، تقول بأن الأمة الإسلامية كان بإمكانها أن تقوم بواجب تحرير العباد من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد، وبواجب التمكين لسيادة الشريعة الألهية في الأرض، وبواجب تحقيق عالمية الإسلام، كان بإمكانها – لو لا تحرك الجاهلية نحوها – أن تقوم بهذه الواجبات بمجرد إرسال الدعاة المبشرين إلى الآفاق؛ ليخاطبوا الناس بدعوة الإسلام ويلزموهم بشرائعه وشعائره، ويسوقوهم إلى الله سوقا، ويحرروهم من العبودية لطواغيتهم، ويخلصوهم من ظلم حكامهم، ويخرجوهم مما فرضوه عليهم من ديانات باطلة إلى دين الحق، وأن يقع هذا كله على مرأى ومسمع الملوك والأباطرة والأكاسرة والقياصرة.

وهذه المغالطة الجذرية هي التي جرتهم إلى الاستغراق في التفسير الدفاعي لكل مرحلة من مراحل الجهاد، حتى غدت الصورة العامة وكأن الأمة الإسلامية قضت حياتها كلها في دفع عدوان المعتدين؛ حتى جرها هذا الدفع المتتابع إلى حدود الصين شرقا وإلى الأطلسي غربا، وحتى انعكس عليها ببسط سلطان الإسلام على المعمورة سهلها ووعرها!!

وقد أثير في واقعنا المعاصر سؤال ليس بريئا من التهمة؛ أدى إلى وقوع الكثيرين في أخطاء جمة، ينص هذا السؤال (المفخخ) على الآتي: ما هو الأصل في علاقة الدولة الإسلامية بالدول غير الإسلامية؟ هل الأصل هو الحرب؛ فتكون القاعدة المستمرة بين دار الإسلام ودار الكفر هي الحرب، ولا يكون سلم إلا بالدخول في الإسلام أو في عقد صلح أو ذمة أو أمان؟ أم أن الأصل هو السلم؛ فتكون الحرب وضع استثنائي، ويكون السلم هو القاعدة المستمرة حتى ولو لم يكن ثم هدنة ولا صلح ولا أمان؟

هذه المسألة طرحت في الواقع المعاصر على أثر إعلان ميثاق الأمم المتحدة وتحريمه للحرب الهجومية، ولم تكن هذه المسألة بهذه الصيغة مطروحةً لدى الفقهاء الأقدمين، فمن قال إنّ الأصل هو السلم اضطر اضطرارا لإنكار جهاد الطلب والابتداء، ومن قال إنّ الأصل الحرب خالف طبيعة الإسلام؛ إذ هو ليس دينا عدوانيا، وليس القتل غاية له، ولا حتى فرض العقيدة بالقوة؛ لذلك نقول إنّ هذا السؤال كان (ملغوما) وأدى إلى صدام لا محل له من الإعراب.

والحقيقة أنّ الأصل في العلاقة بين الدولة الإسلامية وغيرها ليس الحرب ولا السلم؛ لأنّ الحرب والسلم وسيلتان لتحقيق المقصد الذي يُعَدُّ هو بعينه الأصل في العلاقة، وهو “السيادة” أعني سيادة الشريعة الإسلامية وهيمنتها، هذا المقصد يمكن أن يتحقق بدون حرب، وذلك بدخول الكفار في الإسلام أو بدخولهم في الطاعة لدولة الإسلام والخضوع لسيادة شريعة الإسلام، بأن يدفعوا الجزية ويلتزموا الصغار، الذي هو مجرد الالتزام بقانون الإسلام ودستور الشريعة وعدم الخروج عليه، فإن فعلوا ذلك عصموا دمائهم وأموالهم، وقيل لهم لا إكراه في الدين، من شاء فليؤمن ومن شاء فليبقى على دينه، ويمكن ألا يتحقق هذا إلا بالحرب والقتال؛ وعندئذ يجب ويتعين حتى تتحقق هذه الغاية، التي هي أصل العلاقة بين الدولة الإسلامية والدول غير الإسلامية، أمّا أصل العلاقة بين الأمة الإسلامية والأمم الكافرة فهي علاقة المرشد الهادي بالضالين الحيارى، وذلك بالدعوة والبلاغ والبيان والمجادلة بالتي هي أحسن.

وإنّه ليقال – وللقول وجاهة – إنّنا لم نَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرةً واحدة قاتل الكفار دون أن يبدأوه هم بالقتال والعدوان، سنفترض صحة التعميم في هذا القول، وأنّ “بدرا” لم تتمحض للدفاع استراتيجيا، وأنّ الفتحَ لم يكتسب من اسمه ما يرفعه فوق مستوى رَدّ الفعل، وسنتجاوز عن حقيقةِ أنَّ تصرف الخلفاء الراشدين في الشأن السياسي يُعَدٌّ سنة واجبة الاتباع، وأنّ هذه السنة في الجهاد تُعَدُّ تكملة لمسيرة الجهاد التي بدأها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكملوها هم بعد أنّ أتم الله النعمة وأكمل الدين؛ فكان جُلُّ جهاد الدفع واقعا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وجُلُّ جهاد الطلب واقعا في حياة الخلفاء، سنتجاوز عن ذلك؛ لنفرغ لبيان حقيقة واقعية فيها حل الإشكال برمته، ومن جذوره.

إنّ الدفع والطلب ليسا من الشئون التي يسهل فصل بعضها عن بعض في سياق الصراع بين الحق والباطل، فالباطل – لدى اشتداد الصراع واحتدامه – طالب للحقوق مطلوب منه، وقوى الباطل قبل – حسم الصراع – طالبة للحق مطلوبة منه، والتدافع – في أول الأمر – إذا اشتد واحتدم لا يدع فرصة لمن يريد أن يميز المبتدئ من المبتدأ، ولدى قيام الدولة الإسلامية في أيّ زمان وفي أيّ مكان سيستدير الزمان كهيئته يوم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم واتخذ المدينة عاصمة لدولته ومنطلقا لجهاده ودعوته، وستصطف قوى الأرض كلها ضد دولة الإسلام، ولن تقصر جهة من الجهتين في طلب الأخرى، وسيكون الدفع طلبا والطلب دفعا، هذه هي الحقيقة التي يقررها الواقع والتاريخ.

هذا في أول الأمر قبل أن يميل الميزان لصالح الحق، أمّا مع بداية الظهور والعلو لدولة الحق فإنّ الرؤية تضح، فيتميز الدفع من الطلب؛ لأنّ قوى الباطل ستكون في حالة خوف وكمون، ولن تكون طالبة إلا على وجه الاستثناء، وهذا ما وقع مع نهاية خلافة أمير المؤمنين عمر، لذلك فرق العلماء بين الدفع والطلب عندئذ، فقالوا إنّ الغزو فرض كفاية، بينما يتعين هذا الفرض في حالات، منها أن يعتدي العدو على بلد من بلاد الإسلام.

وقد قيل – وليس يروج هذا القول في سوق الآراء بفلس – كيف نقول إنّ جهاد الطلب واجب وقد دخلنا مع دول العالم في معاهدات أخضعت الجميع لمنظمات دولية كالأمم المتحدة لقانون دولي؟ ونسي هؤلاء أنّ النظام العالميّ بمؤسساته وقوانينه هو نظام القوى التي تحكم العالم، وعندما تقوم دولة الإسلام ويكون لها الظهور والغلبة – وإنّه لآت وكل آت قريب – فسيكون النظام العالميّ يومها من صنع دولة الإسلام، فالقوي هو الذي يقرر النظام الذي يحكم العالم، يومها سينقسم العالم إلى دار إسلام ودار كفر، وتنقسم دار الكفر إلى دار حرب ودار عهد، ويكون القانون الدولي هو ما تقرره شريعة الله تعالى.

وقد أطلق أحدهم قولةً – لعلها مزحة – فقال: لو أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حيًّا لدخل في هذه المعاهدات، ولقال فيها ما قاله في حلف المطيبين، فَلْيُرَوِّحْ عن نفسه بهذه المزحة كل مهموم مغموم قد نغصت عيشَه وكدرت حياتَهُ قوى الباطل التي عقدت هذه المعاهدات ووضعت هذه النظم والقوانين، إنّ شعوب العالم كله في سجن كبير أقامه لها هذا النظام العالميّ، وإنّ ما يسمى اليوم بالمجتمع الدولي هو في حقيقته عصابة تحكم العالم وتستعبد الشعوب، فهل يشك في هذه الحقيقة عاقل؟ فَلِمَ هذا الدجل؟!

أمّا أنّ الجمهور على أنّ موجِبَ القتل الحرابة، فصحيحٌ، وهذا ما أرجحه وأدين الله به، لكن ما علاقة هذا بالقتال؟ إنّ موجب القتل شيء وموجب القتال شيء آخر، وقد سبق أن تعرضنا لذلك في مقال المقاصد؛ فليراجع هذا الأمر هناك، وأمّا أننا مأمورون بالبر والقسط فهذا أيضا لا علاقة له بالجهاد، فالجهاد ماض لكسر شوكة الباطل، والبر والقسط ماضيان في أهل الحق وأهل الباطل.

هذا وقد قبضت بناني وطويت قلمي عن كثير من الأمور التافهة التي لا تستحق أن ننشغل بها، ولئلا نطيل على القارئ، ولعلنا في قادم الأيام – إن شاء الله – نردف هذه السلسلة بسلسلة أخرى نتحدث فيها عن المراجعات التي وقعت من جماعات باشرت الجهاد قبل ذلك، ولعلنا كذلك نضمّنها موقف فريضة الجهاد من الأنظمة التي تحارب الله ورسوله، مع التعرض لبعض النوازل التي لها صلة بهذا الأمر، انتهت جولتنا هذه، نسأل الله القبول ونستغفره من كل ذنب وتقصير، وصلى الله على سيدنا محمد.[36]

لقراءة باقي الأجزاء الجزء الأول، الجزء الثاني، الجزء الثالث، الجزء الرابع، الجزء الخامس، الجزء السادس، الجزء السابع

الهامش
[1] تفسير الطبري (م 2 ج 2 ص 265).

[2] تفسير ابن كثير (2/298).

[3] تفسير الطبري (م 2 ج 2 ص 266).

[4]تفسير القرطبي (2/728).

[5] تفسير البغوي (1/162)

[6] تفسير البغوي (1/162)

[7] أبو السعود (1/ 240 ).

[8] الكشاف (1/178).

[9] الكشاف (1/172).

[10] فتح القدير، للشوكاني (2/480).

[11] تفسير الطبري (م 13 ج 26 ص 56).

[12]انظر: إرشاد الفحول للشوكاني (1/245)، الإحكام للآمدي (3/5-10)، المستصفى للغزالي (1/262)

[13] إرشاد الفحول للشوكاني (1/245).

[14] السابق نفسه 1/246

[15] متفق عليه: رواه البخاري ك الإيمان برقم”24″(ج1ص26)، ومسلم ك الإيمان برقم “36” (ج1ص77).

[16] رواه البخاري ك الصلاة باب استقبال القبلة برقم”382″(ج1ص322).

[17] رواه مسلم ك الجهاد والسير باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث…. برقم “3267” (ج5ص2267).

[18] صحيح: رواه النسائي في الصغرى ك الخيل برقم”3523″(ج5ص2390)، والإمام أحمد في المسند برقم”16622″(ج14ص6644)،

[19] صحيح: رواه أبوداود في السنن ك الجهاد باب كراهية ترك الغزو برقم”2147″(ج3ص1474)، والإمام أحمد في المسند برقم”13375″

[20] رواه مسلم ك الإمارة باب من مات ولم يغز …. برقم “3540” (ج5ص2489).

[21] صحيح: رواه الترمذي في السنن ك فضائل الجهاد باب ما جاء في فضل الغدو والرواح … برقم”1573″(ج4ص1509)، والحاكم في المستدرك ك الجهاد برقم”2319″(ج4ص1552)، والبيهقي في الكبرى ك الأشربة والحد فيها باب الصمت عند اللقاء برقم”17029″(ج25ص12256).

[22] رواه سعيد بن منصور في سننه برقم”2148″(ج2ص580)، وابن المبارك في كتاب الجهاد برقم”14″(ص8)، وابن أبى عاصم الشيباني في كتاب الجهاد برقم”27″(ج1ص14)، والبيهقي في الشعب برقم”3915″(ج6ص2649)، وأبو بكر الهيثمي في مجمع الزوائدبرقم”9431″(ج5ص505).

[23] المقدمات لابن رشد (1/369)، وانظر التاج والإكليل (4/536).

[24] نقلاً عن تفسير القرطبي لقوله تعالى ( كتب عليكم القتال ) 3/38

[25] انظر: تفسير الطبري (م 2 ج 2 ص 440-442).

[26] انظر: تفسير ابن كثير (1/235).

[27] انظر: تفسير الطبري (م 2 ج 2 ص 440-442).

[28] انظر: تفسير الطبري (م 6 ج 10 ص 43-44)، وتفسير القرطبي (5/2879)، وتفسير البغوي (2/260).

[29] تفسير القرطبي (5/2879).

[30] تفسير الطبري (م 6 ج 10 ص 43-44)

[31] مجموعة بحوث فقهية، د. عبد الكريم زيدان (ص60)

[32] السابق (ص60).

[33] ر: فتح الباري (10/190)، عمدة القاري (14/274)، وشرح النووي على مسلم (12/45)، وعون المعبود (7/211)، وفيض القدير (6/388).

[34] انظر: عون المعبود (11/276)، وحاشية السندي (6/44).

[35] متفق عليه: رواه البخاري ك الجهاد والسير باب في قتال الترك برقم”2726″(ج5ص2268)، ومسلم ك الفتن وأشراط الساعة باب لا تقو الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت … برقم “5192” (ج8ص3637) واللفظ للبخاري.