كأنّ هؤلاء في تيه لا يُهْتَدَى فيه إلى مخرج! وكأنّهم – إذْ يتخبطون في متاهاته – سكارى غارقون في غيابات الظلمات! ما هذا الخبط العشوائي؟! وما هذه الرعونة الطائشة؟ لماذا – إذ جهلوا الشريعة – يتورطون في الإفتاء؟! ولماذا – إذ علموا انحراف الحاكم – يتسابقون في إرضائه ولو بتزوير الحقائق وتزييف الأحكام؟! ألهذا الحدّ صار الدين ألعوبة في أيديهم؟! حتى تحول المعلوم حرمته بالضرورة إلى حلال لمجرد اختلاف في بعض الصور والأشكال، وحتى صار الربا الذي أجمعت الأمة على تحريمه – إجماعا يستند إلى آيات محكمات وأحاديث واضحات – مباحًا؛ لا لشيء جديد طرأ على المعاملة إلا تحولها من جرائم فردية إلى جرائم جماعية مؤسسية منظمة!!
ولو أنّهم رجعوا إلى فتاوى علماء الأزهر الراسخين في العلم، وإلى قرارات المجامع الفقهية الكبرى؛ لأراحوا واستراحوا، فقد أفتى الجهابذة الكبار من أمثال: الإمام محمد أبو زهرة، والشيخ عبد المجيد سليم، والشيخ حسن مأمون، والشيخ جاد الحق، والشيخ عطية صقر، وغيرهم؛ بتحريم فوائد البنوك بكافة صورها، وبذلك أصدرا المجامع الفقهية العظمى قراراتها.
وكان أولها قرار مجمع البحوث الإسلامية في مؤتمره الثاني بالقاهرة مايو 1965م([1])، ثم صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 16:10 ربيع الثاني 1406هـ بنفس الحكم([2])، وبعده قرار مجمع رابطة العالم الإسلامي بنفس الحكم([3])، كما جاء في توصيات المؤتمر الثاني للمصارف الإسلامية بالكويت” التأكيد على أن ما يسمى بالفائدة في اصطلاح الاقتصاديين الغربيين ومن تابعهم هو من الربا المحرم شرعاً”([4])، ومن المعلوم أنّ قرارات المجامع الفقهية من قبيل الاجتهاد الجماعي الذي تتحقق فيه الشورى العلمية الرشيدة.
لكنّهم أعرضوا عن ذلك كله، واستمروا في غيهم سادرين، وها هي دار الإفتاء تفاجئنا بفتوى غاية في الغرابة، ففي سَبْع جُمَلٍ تتبارى في الركاكة والإسفاف؛ أُلْقِيَت الفتوى عارية من كل ما يمسكها من الانحدار إلى سقط الأقاويل، فلا معنى ولا مبنى، لا مضمون شرعي ولا صياغة فقهية، تُطالعنا الجملة الأولى بتكييف العملية على أنّها تمويلٌ، وتؤكد الثانية أنّ التمويل عقد جديد خلقه الاقتصاد على غير مثال سابق! وتستطرد الثالثة موضِّحة أنّ العقود الجديدة جائزة ما لم تكن غررا أو ضررا أو ربا؛ ومن ثمّ فلا وجه للاعتراض – بحسب الجملة الرابعة – ثُمَّ على طريقة “جزرة وقضمها جحش” حسمت الجملة الخامسة الموقف من الأرباح التي تحدد سلفا بأنّها جائزة، ثم تأتي السادسة بالتسويغ المقاصدي؛ حيث تُعَدُّ هذه الشهادات مُحَفِّزة للادخار والاستثمار، أمّا سابعة “البلاوي” فلا أدري كيف تسللت إلى السياق، تقول: إنّ لها حماية قانونية تنظمها!!
وكأنّ الفتوى المهترئة تلك كانت صافرة الانطلاق؛ لنرى ونسمع العجب العجاب، فمن واصف للودائع البنكية وشهادات الاستثمار بأنّها تمويل، وآخر يصفها على أنّها استثمار، وثالث دَعِيٌّ جهول يَدَّعي أنّ المعتمد في تحريم الفوائد حديث “كل قرض جر نفعا فهو ربا” ومادام ضعيفا فقد انهار كل قول بحرمتها، هذا سوى من تبجح فادعى أنّها مضاربة أو توكيلا بالاستثمار، إلى غير ذلك من المضحكات.
ولنبدأ بالحديث، فبرغم ضعفه فإنّ معناه روى عن جمع من السلف، قال صاحب مغنى المحتاج: “وهو وإن كان ضعيفاً فقد روى البيهقى معناه عن جمع من الصحابة”([5])، ومن الآثار الواردة عن الصحابة ما رواه البخاري في صحيحه عن سعيد بن بردة عن أبيه قال: “أتيت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام، فقال: “ألا تجئ فأطعمك سويقاً وتمراً وتدخل البيت، ثم قال: “إنك في أرض -يقصد العراق- الربا فيها فاش، إذا كان لك على رجل حق، فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فإنه ربا”([6])، والأهم من ذلك كله أنّ تحريم الربا لا يستند فقط إلى حديث أو أحاديث، وإنّما يستند إلى آيات ممحكمات في كتاب الله تعالى، منها قول الله عزّ وجل في سورة البقرة: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279)) (البقرة: 278-279).
ومن المهم هنا أن أسوق بعض إجماعات العلماء بنصها؛ فهي تدل من جهة على قطعية تحريم الربا، كما تدل على أنّ اشتراط الفائدة مقدما ربا لا يجوز بالإجماع، قال الإمام بن قدامة -رحمه الله-: “كل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام بغير خلاف، قال ابن المنذر” أجمعوا على أن المسلف إذا اشترط على المستسلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك أن أخذ الزيادة على ذلك ربا”([7])، وقال الإمام القرطبى -رحمه الله تعالى-: “أجمع المسلمون نقلاً عن نبيهم أن اشترط الزيادة في السلف ربا، ولو كان قبضة من علف كما قال ابن مسعود أو حبة واحدة”([8])، وقال الإمام ابن تيمية: “وليس له أن يشترط الزيادة عليه في جميع الأموال باتفاق العلماء”([9]) ويقول الشيخ محمد أبو زهرة: “ولا يشك عالم في أي عهد من عهود الإسلام أن الزيادة في الدين نظير تأجيله ربا لا شك فيه”([10]).
أمّا التكييفات المنحرفة التي تقدموا بها فلا يثبت منها شيء أمام أدنى مناقشة، فلنقف أولا عند ذلك التكييف الذي بُنِيَتْ عليه الفتوى، فالودائع وشهادات الاستثمار – بحسب الفتاوى الضالة – تمويلٌ، فهل هذا الوصف يصلح لأن يكون تكييفا فقهيا لمعاملة لها أركان قانونية محددة؟ إنّ وصف “تمويل” ليس وصفا منضبطا ولا تكييفا محددا يصلح لأن يتنزل عليه حكم شرعيٌّ، إنّه يشبه تكييف “الويسكي” على أنّها شرابٌ، وتوصيف الميتة على أنّها لحمٌ، والشراب واللحم لا يتنزل على واحد منهما حكم بالحل أو الحرمة حتى يُعلم أيّ شراب هذا وأيّ لحم ذاك؟ إنّ التمويل وصف عام لعملية تتنوع صورها وتتعدد أشكالها، فالتمويل هو دفع المال لمن ينميه، وهذا يتحقق بالقرض الربوي المجمع على تحريمه وبطلانه، كما يتحقق بالمضاربة الشرعية المجمع على جوازها وصحتها، لذلك نجده في الاقتصاد ينقسم إلى أنواع أهمها: التمويل بالقرض والتمويل بالأسهم، فإقراض الشركة تمويلٌ وشراء أسهم في شركة تمويلٌ؛ فهل يستويان؟ وما يقال عن التمويل يقال عن الاستثمار، فهو تثمير للمال، وتثمير المال يكون بالحلال والحرام من قنوات الاستثمار التي تتدرج سفولا وصعودا من الأرض السابعة إلى السماء السابعة؛ فكيف يصلح التنزيل لحكم شرعيّ على أوصاف كهذه؟
ومما قيل – وكم بالمقولات من تفاهات – إنّ البنك هنا عامل، والمشتري للشهادة رب المال، والمعاملة مضاربة، ولا يمكن أن يمر هذا الكلام حتى يمر من ثغر الحقيقة قطار الأوهام؛ فإنّ البنك ليس عاملا، فالبنوك عملها الاستثماري هو الاتجار في الائتمان، وهي تقترض بفائدة وتُقرض بفائدة أعلى وتربح الفرق، ولا يمكن تكييف معاملاتها في الودائع أو شهادات الاستثمار على أنّها مضاربة؛ وآية ذلك أنّ يد العامل المضارب على المال – وكذلك يد الوكيل – يدُ أمانة بإجماع العلماء، أمّا يد البنك على الودائع بكافة أنواعها فهي يدُ ضمان بإجماع القانونيين، كما أنّ العائد على رب المال في المضاربة “نسبة شائعة من الربح” أمّا العائد على المودع أو صاحب الشهادة فهو “نسبة من رأس المال”، وشتان بين الأمرين، يضاف لهذا وذاك أنّ المخاطرة – التي هي مناط استحقاق الربح – تكون في المضاربة على الجانبين “الغرم بالغنم”، فإن حصل ربح كان بينهما، وإن وقعت خسارة كانت بينهما، فيخسر العامل عمله ويخسر الآخر ماله.
ولا يصف البنك بأنّه وكيل في الاستثمار أو مضارب أو شريك مستثمر إلا جاهل بالشرع والواقع معا، فمن المتفق عليه عند القانونيين والاقتصاديين أنّ ” البنوك تقترض لكي تقرض”([11])، و”يمكن تعريف البنك بأنه المنشأة التي تقبل الودائع من الأفراد والهيئات تحت الطلب أو لأجل، ثم تستخدم هذه الودائع في منح القروض والسلف”([12])، كما “يمكن تلخيص أعمال البنوك التجارية في عبارة واحدة هي: التعامل في ائتمان والاتجار في الديون”([13]).
أمّا التكييف الصحيح للودائع بأنّها قروض ربوية، قروض بفوائد محددة سلفًا؛ فالبنك الذي يتلقى الودائع أو يصدر الشهادات هي المقترض، والشخص الذي يودع أو يشتري الشهادة هو المقرض، والمبلغ المودع أو المدون في الشهادة هو رأس المال، والزيادة هي الفائدة الربوية، وقد عَرَّفَ العلماء الربا بأنّه: “زيادة مشروطة في دين مقابل الأجل” وأجمعوا على تحريمه في أيّ صورة أتى، وقد كان له في الجاهلية صورا أربعة، تكاد تغطي الصور المعاصرة في البنوك بعد تطوير في جانب الآليات.
وهذا التكييف هو ذاته التكييف القانوني لشهادات الاستثمار، فالقانون رقم 8سنة 1965 ينص على أن الشهادات “أ،ب” قرض بفائدة، وإذا كان هذا التكييف واضحا بالنسبة للمجموعتين أ، ب؛ فإنّ المجموعة “ج” – التي حدث حولها شئ من الجدل بسبب أن عائدها يوزع في صورة جوائز – لا تقل في استحقاقها بالتكييف ومن ثم بحكم التحريم عن “أ” و”ب”؛ لأن ما يجرى عليها لا ينقلها عن أصلها الربوي بل يزيد على مصيبة الربا مصيبة أخرى وهي الميسر؛ فالذي يحدث هو أن الفوائد الربوية العائدة على مجموع المشتركين في هذه الشهادات بدلا من أن توزع عليهم بحسب حصصهم، تجرى عليها قرعة لتوزع في صورة جوائز متفاوتة يختص بها أصحاب الحظ من العملاء، فهل إذا أضفنا الميسر إلى الربا يتحول الربا من الحرام إلى الحلال؟!
([1]) قرارمجمع البحوث الإسلامية في مؤتمره الثاني بالقاهرة 1385هـ/1965م.
([2]) قرار مجمع لفقه الإسلامي في مؤتمره الثاني بجدة 1406هـ/1985م.
([3]) القرار السادس لمجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته التاسعة من 12 رجب 1406 هـ إلى 16 رجب 1406هـ.
([4]) التوصية الأولى من توصيات المؤتمر الثاني للمصارف الإسلامية بالكويت 1403 هـ.
([6]) رواه البخاري ك مناقب الأنصار باب مناقب عم عبد الله بن سلام برقم (3814)
([7]) المغنى لابن قدامة 4/ 360.
([9]) مجموع الفتاوى ابن تيمية 29/535.
([10]) الشيخ: محمد أبو زهرة: بحوث في الربا ص 30.
([11]) محاضرات في النقود والبنوك ص 233 نقلاً عن حكم ودائع البنوك ص 38.
([12]) محاضرات في القروض والبنوك ص 233، نقلاً عن حكم ودائع البنوك ص 38.
([13]) مقدمة في النقود والبنوك ص 197 نقلاً عن كتاب حكم ودائع البنوك ص 38.