لم تكن الاتجاهات السلفية – في العالم الإسلاميّ على وجه العموم وفي مصر على وجه الخصوص – معنية بالممارسة السياسية، وإن كانت قد اهتمت – بدرجات متفاوتة – بالجانب التنظيريّ في دائرة السياسة الشرعية، ولكن بالقدر الذي لا يتسع للدراسات المقارنة المعمقة.
ومردّ ذلك إلى أمور، منها التورع عن الانخراط في الممارسة السياسية في أجواء غلب فيها النهج السياسي المخالف لمنهج الله تعالى، ومنها إيثار السلامة والاحتراز من الوقوع في صدام مع الأنظمة الغاشمة، ومنها تعميم الحكم على الأوضاع السياسية النظرية منها والعملية، ومنها حالة الاستياء من ممارسات بعض الإسلاميين الذين آثروا المضيّ في طريق الحلول السياسية لأزمة انهيار الأوضاع الإسلامية.
لكن الذي حدث بعد ثورة يناير 2011 كان مثيراً للدهشة؛ إذ تحول الموقف فجأة من الإعراض عن السياسة بكل صورها إلى الإقبال عليها بجميع أشكالها، وقد ساد التبرير السهل كل الأجواء الجدلية حول هذا التحول المفاجئ، وهو التبرير المتكئ على قاعدة: “لا ينكر اختلاف الأحكام باختلاف الأزمان “وهو تبرير غير مقنع في الصورة العامة، وإن كان الأمر – لدى التحقيق – فيه تفصيل ينبغي ألا يهمل في معرض الاستشفاف للواقع وما وراءه من دوافع.
فالواقع أن موقف الاتجاهات السلفية لم يكن واحداً وإن بدا كذلك، فهناك من كان يبرر إعراضه عن الممارسة السياسية بعدم جدواها وبمخالفتها للمصلحة، وبغلبة الشر فيها على الخير، ومثل هذا الطرح يصح معه القول بأنّ الحكم يختلف باختلاف الأزمان، فإذا كان الزمان مناسباً لتحقق المصلحة الشرعية من الممارسة السياسية جازت، وإلا لم تجز، لأنّه لا ينكر اختلاف الأحكام باختلاف الأزمان، وهذا من الأحكام التي ترتبط بالعوائد والتي تندرج تحت هذه القاعدة.
وعلى الجانب الآخر هناك اتجاهات سلفية كانت تعرض عن السياسة لأسباب تتعلق بالعقيدة والمنهج، ومثل هذا لا يمكن ربطه بالقاعدة الآنفة الذكر، ومن ثم كان موقفهم بعد الثورة متناقضاً مع موقفهم قبل الثورة، وهكذا بدت الصورة العامة التي كانت تتبع المشهد الأكثر ظهورا وهو مشهد التناقض الذي لا يسعفه التبرير.
وهذا العزوف عن السياسة في سابق الأزمان كان له أثره على الأداء السياسيّ في الفترة التي منحوا فيها الفرصة، فنتجت أخطاء عديدة كان لها دورها في تلك الانتكاسة وتلك الردة عن المسار الرشيد بعد الثورة.
لكن لا شك أنّ هناك جملة من الإيجابيات كانت لافتة للانتباه، أودّ أن أبدأ بها قبل الشروع في تناول السلبيات، من هذه الإيجابيات التخلي السريع عن كثير من المواقف التي فيها غلو فكريّ وعقديّ وعمليّ؛ كانت هي السبب في بعدهم عن الساحة السياسية، كالاعتراض على الانتخابات باعتبارها – وهي مجرد آلية من الآليات – مخالفة للنظام الإسلاميّ، ورفض دخول البرلمان الذي كان من قبل حراماً ولا يشفع للمشارك فيه أنّه يبتغي المصلحة للناس.
إقرأ أيضاً
وكان منها كذلك سرعة الانفتاح على الغير مع الحفاظ على ضوابط الانفتاح، وغلب ذلك على الاتجاهات التي انتهجت سبيل الكفاح المسلح قبل ذلك؛ بما يقطع بأنهم ما حملهم على ذلك إلا قمع الأنظمة الاستبدادية التي أبت إلا أن تحرمهم حقهم في سلوك السبل السلمية لتوصيل رسالتهم والتعبير عن رأيهم وما يعتقدون.
أما السلبيات فكانت غالبة بشكل يقطع بموت التجربة وهي في مهدها، وكان مردها جميعاً إلى ضعف الخبرة، كان أبرزها تلك الزلة التي أضاعت أمة، والتي اشترك معهم فيها الإخوان المسلمون، وهي الثقة بمن تمرسوا في الفساد وتمرغوا في الظلم، مع أنّ القرآن الذي بين أيديهم يحذرهم من ذلك: “ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون” فوضعوا ثقتهم في المجلس العسكريّ، الذي استدعاهم وجالسهم فريقا من بعد فريق وفصيلا من وراء فصيل، ولم يأل جهداً في إقصاء بعضهم عن بعض وفي إقصاء جميعهم عن الشارع، وتلك كانت زلة أخرى من عظائم الأمور.
وتلك كانت الزلة التاريخية التي أعطت الإعلام فرصة ليسلخ الإسلاميين جميعاً عن الشارع المصريّ؛ ومن ثم يمتهد السبيل للإجهاز عليهم وعلى مشروعهم في وثبة للثعبان الذي ظل على مدى عامين أو أكثر يلتف حول فريسته.
وإذا كانت تلك الأخطاء عامة فإنّ هنالك خطأ استقل به فريق من السلفيين الذين لا فرق بينهم وبين سلفية التقديس للحكام (الرسلانية) إلا أن الأول يسكن في الإسكندرية والآخر بالمنوفية، إضافة إلى أن الأول خاض التجربة وغرق في خضمها، بينما الآخر ظل على الشاطئ يحذفه ويحذف غيره بعبارات الإبعاد والتكفير والتحقير والتصغير. هذا الخطأ الفجّ تمثل في تحالفهم مع جبهة الانقاذ ضد الرئيس، وضد الحكومة، وضد إخوانهم من التيارات والأحزاب الإسلامية، ثم كانت قاصمة الظهر عندما وقفوا مع الانقلاب، ولم يكن لهم في ذلك أدنى مبرر، ولن ينسى لهم التاريخ أنهم ساعدوا في وأد التجربة بغبائهم وحقدهم السياسيّ الذي لم يكن لهم فيه أدنى مسوغ، وإذا كانت هذه هي التجربة الأولى للسلفيين في الواقع المعاصر فإنّ الأمل في ترشيد مسعاهم في مقتبل الأيام قائم.