في ذكرى السابع من أكتوبر: القضية إلى أين؟

د. عطية عدلان

في ذكرى السابع من أكتوبر، وبعد حصادِ عامٍ كاملٍ سَجَّلَ في الصفحتين المتقابلتين ما سجله من آثار ونتائج؛ تكثر الأسئلة التي تفرض نفسها على العقل الإسلاميّ والإنسانيّ، مِنْ هذه الأسئلة ما يجب أن يُرجأ إلى أن تضع الحرب أوزارها؛ لسببين لا يمنعهما التقابل من أن يكمل كلٌّ منهما الأخر، السبب الأول هو ثقتُنا أنّ قيادة المقاومة أهلٌ لاتخاذ القرار المناسب في التوقيت المناسب، دون أن يداخلها الهوى والغرض، أو يُغَرِّرَ بها ويركب ظهرها أصحاب المشاريع المتصارعة في المنطقة، ومِنْ ثَمّ فإن كانوا أخطأوا في التوقيت أو التخطيط فخطؤهم مجبور وذنبهم مغفور واجتهادهم مأجور غير مأزور، السبب الثاني هو أنّهم – وإن كانوا ليسوا فوق المحاسبة – لا يجوز في حقّهم – والحرب مستعرة – إلا النصرة والدعم والتسديد، يضاف لهذين السببين المتكاملين سبب ثالث يتجلى لنا من قول الله تعالى: (وَلَوْ ‌تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا)؛ فلنمضِ متوكلين على الله، ولنكن على ثقة بنصر الله.

ومن هذه الأسئلة ما يفرض نفسه ويُلِحُّ ويُلْحِفُ في التماس الإجابة الشافية؛ فلا يجوز لنا أن نغمض أعيننا ونصمّ آذاننا متجاهلين مقتضيات الواقع الجاثم ومتطلبات الساعة الحاضرة المشهودة، فها هنا سؤال الواجب والمستحبّ والمباح والمكروه والمحرم، سؤال الحكم الشرعيّ المنوط بالمكلفين من المسلمين، وبإزائه سؤال الواقع وإكراهاته وكيفية معالجة هذا الواقع والتعامل مع هذه الإكراهات، وهنا يجب أن نكون صرحاء واضحين وشجعان مبادرين؛ لأنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة مُضِرٌّ ومفسد.

ثم يأتي في الأخير سؤال ينبني على ما سبق، سؤال الغاية والمآل، إلى أين تتجه بوصلة الأحداث؟ هل سيتحقق حلم المقاومة وحلم أهل الإسلام جميعًا فتضع الحرب أوزارها ولو إلى حين، وتنجلي هذه الجولة منها عن مكاسب مرحلية تحتسب في صالح المقاومة وتعد نصرًا عزيزًا ولو كان مرحليًّا؟ أم إنّه العلو الكبير للمشروع الصهيونيّ يقوده زعيم الإبادة “نتنياهو”، متخطيًا مقاومةً شهيدة، ومستقبلًا أخرى وليدة؟

التأكيد على ما هو معلوم بالضرورة

ونبدأ الإجابة على الأسئلة الكبرى الضرورية والعاجلة بالتأكيد على ما هو معلوم بالضرورة؛ فمن المعلوم للكافّة أنّ العدو الصهيونيّ قام باحتلال أرض فلسطين، ولم يكن له فيها أدنى حقّ، فهي أرضٌ سلامية، فتحها المسلمون زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فليس لحاكمٍ – أيًّا كان وضعُهُ – الحقُّ في أن يتصرف فيها بالتمكين لأعداء الأمّة منها؛ فلا معاهدات السلام التي اعترفت بدولة إسرائيل، ولا التطبيع الذي انطلق منها إلى تحويل العلاقة مع الكيان المحتل الغاصب إلى علاقة طبيعية تحظى بالاحترام، ولا جميع اتفاقيات الإذعان التي أبرمت ابتداء من كامب ديفيد ومرورًا بوادي عربة وأوسلوا وانتهاء بالاتفاق الإبراهيمي الذي يمهد لردة شاملة، لا شيء من ذلك كله يمكن أن يجعل للصهاينة حقٌّ في شبر من أرض فلسطين، فكيف إذا علم بالاضطرار أنّ غاية المشروع الصهيونيّ القضاء على الإسلاميّ؟ وعليه فإنّ الكيان الصهيونيّ كيان معادي، أغار على بلاد الإسلام ومقدساته، مدعومًا من النظام الصليبي المجرم؛ يستهدف الإسلامَ والأمةَ الإسلامية، ويمثل بهذا الاستهداف المباشر تهديدًا كبيرًا وخطيرًا للشعوب المسلمة ولدينها؛ فمقاومته – إذن – دفع،  أي دفاعٌ عن الدين والنفس والعرض والأوطان وعن بيضة الإسلام.

فإذا كانت المقاومة من جنس الدفع والدفاع؛ فحكمها هو حكم جهاد الدفع، وحكم الجهاد – الذي هو القتال في سبيل الله – هو أنَّه فرض لازم وواجب محتم، هذا هو حكم الجهاد على وجه العموم، ومن المسَلَّم به شرعًا وعقلًا أنّ جهاد الدفع آكد من جهاد الفتح؛ ومن ثمّ فجميع ما يُستدل به على وجوب الجهاد عمومًا من قرآن وسنة وإجماع ينصرف إلى جهاد الدفع قبل جهاد الفتح، ودلالته على وجوب جهاد الدفع أولى من دلالته على وجوب جهاد الفتح، أمّا الآية التي يستدل بها العلماء عادة على وجوب جهاد الدفع فهي هذه الآية الصريحة: (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ‌الَّذِينَ ‌يُقاتِلُونَكُمْ ‌وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة: ١٩٠)، أي قاتلوا الذين يعتدون عليكم ويبادرون بمهاجمتكم؛ لدفع عدوانهم، ووقاية المسلمين من فتنتهم، ولا تعتدوا أثناء قتالكم بقتل من لا يتأتّى منه القتال، وعلى الرغم من أنّ دلالة الآية قوية وقاطعة فيما نحن بصدده فإنّني لا أستسيغ الاكتفاء بها، بل أرى الاستدلال بجميع النصوص من القرآن والسنة الدالة على وجوب الجهاد؛ لأنّ دلالتها على وجوب جهاد الدفع أقوى من باب أولى، والله أعلم.

 والعلماء من كافة المذاهب ينصُّون نصًّا على الإجماع؛ ليكون دليلًا يضاف للآيات والأحاديث يقطع التشغيب ويورث التسليم، والحكم بالوجوب فصَّله العلماء، وبَيَّنوا أنَّه تارة يكون فرض كفاية وتارة يكون فرض عين، فالأصل أنَّهم إذا تكلموا عن الجهاد وعن وجوب القتال وجوبًا كفائيًّا فإنَّما يعنون بذلك الغزو، أي يقصدون الجهاد عمومًا، أمَّا الوجوب على التعيين فهو في حالات أهمها الدفاع عن بلاد المسلمين إذا غزاها الأعداء، فإذا تصفحت كتب الفروع في جميع المذاهب وجدتهم يتحدثون عن الجهاد عموما ومنه الفتح وينصون على أنّه فرض كفاية، ثم يتحدثون عن الواجب العيني جهاد الدفع.

وبناء على ماسبق فإنّ مقاومة العدو الصهيونيّ الذي يحتل أرض فلسطين جهاد دفع، وهو فرض عين، يجب على كل من قدر عليه أن ينهض إليه، ولا يجوز التخلف عنه إلا بعذر، والوجوب العينيّ هنا يلزم أولًا أهل البلاد التي تعرضت للاحتلال، ويبقى على غيرهم من المسلمين فرضًا على الكفاية، فإن لم يكن بأهل تلك البلاد قدرة على دفع العدوان انتقل الوجوب العينيّ إلى من وراءهم، إلى أن يعمّ الأمة بأسرها.

ويترتب على هذا أنّ معركة “طوفان الأقصى” التي وقعت في السابع من أكتوبر 2023م تُعَدُّ من قبيل جهاد الدفع، الذي هو فرض عين، ويعدّ القائمون بهذه المعركة قائمين بجهاد دفع، يؤدون واجبًا عينيًّا لم يقتصر وجوبه عليهم؛ فوجب دعمهم والقيام معهم، وحرم التخلف عنهم مع القدرة، فمن تخلف وهو قادر على النصرة أثم، وإذا لم يستطع المسلمون اللحاق بهم وجب عليهم السعي لإزالة العقبات التي تحول دون الواجب؛ إذْ إنّه “ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”.

كما يترتب على ما سبق أنّ الأمة الإسلامية بأسرها يجب عليها أن تهب لنصرة أهل غزة وأهل فلسطين، وأنّ الإثم يقع على كل من تخلف وهو قادر على النصرة، فإن منعه من ذلك حاكم باء بإثمه، ويبقى على المسلمين واجب الضغط على الحكام ليصححوا مواقفهم من المقاومة، وأن يبذلوا وسعهم في الجهاد بالمال وبالدعاء وبالدعوة وبالدعم الإعلاميّ والمقاطعة للشركات الداعمة للكيان وغير ذلك؛ فإنّ الميسور لا يسقط بالمعسور، وما لا يدرك كله لا يترك كله، والله تعالى أعلم.

سبيل للمشاركة بالغ الأثر

ولست مع من يرى أنّ سبيل الجهاد الفعليّ مع أهل فلسطين معدوم بشكل كليّ، فمن حاول وبذل سيجد منافذ كثيرة، من ذلك أنّه “يجب على المسلمين في كلّ بقاع الأرض أن يشاركوا إخوانهم في فلسطين وغزة جهادهم ضد الغاصب المحتلّ؛ لأنّه جهاد دفع؛ وعليه فمن لم يستطع وحيل بينه وبين الوصول إلى فلسطين، ولكنْ تهيّأ له الجهاد بأن ظفر بأحد الصهاينة الذين استوطنوا فلسطين في أيّ مكان وجب أن يستهدفه، بشرط أن يكون صهيونيًّا مستوطنًا أرض فلسطين؛ وذلك لأنّه محارب جمع بين وصفيّ الكفر والحرابة، والعلماء قد فرقوا بين موجب القتال وموجب القتل، فأمّا موجب القتل فهو الكفر مع الحرابة، فانضمام الحرابة إلى الكفر يزيل عصمة الدم باتفاق العلماء، والصهاينة ليس فيهم أحد مدنيٌّ، لأنّهم تركوا بلادهم وديارهم وجاءوا ليستوطنوا بلاد الإسلام وأرض الإسلام على وجه الغصب، ولولاهم ما نجح المشروع الصهيونيّ؛ لأنّ هذا المشروع الخبيث قائم على محورين: الاحتلال والاستيطان، الاحتلال من قبل الجيش والاستيطان من قبل المدنيين، فهم جزء من المشروع الصهيونيّ، فلا عصمة لهم ولا حرمة لدمهم، فهم ودماؤهم وأموالهم هدر في نظر الشريعة، حلال للمجاهدين إذا ظفروا بها”.

الشروط بين المراعاة والتعطيل

وقد ذكر العلماء شروط وجوب الجهاد في كتبهم وكادوا يتفقون عليها، وقد تكرر في كتب الفروع النص على شرط الإسلام، وشروط التكليف، وشرطَي الذكورة والحرية، وشرط الاستطاعة، ومن الواضح أنّ هذه الشروط التي سماها العلماء شروط وجوب الجهاد هي شروط الوجوب على العبد المكلف، أمّا شروط اتخاذ القرار بالقتال من الجهة المسئولة في الأمة – سواء كانت سلطة الدولة أم أهل الحل والعقد لدى شغور الزمان من سلطة الدولة الشرعية أم الجماعة المؤمنة من أهل الثغر عند غياب الجهتين الآنفتين – فإنّها شيء آخر مختلف، فتلك كانت شروط وجوب الجهاد على العبد المكلف، أمّا الأخرى فهي شروط متعلقة بالقرار السياسي بالحرب، وكذلك ينبغي أنْ نفرق بين شروط الوجوب الآنفة الذكر وبين الشروط التي ألحقت بها وليست في الأصل منها، وإنما اشترطت عند تعلق الخروج للجهاد بحقوق الآخرين، كاشتراط إذن الوالدين، واشتراط إذن الدائن، فهذه وأمثالها شروط وضعت لأجل رعاية حقوق الآخرين، والصحيح اشتراطها في جهاد الفتح الذي هو فرض كفاية لا جهاد الدفع الذي هو فرض عين.

وشروط اتخاذ قرار الحرب في جهاد الغزو والفتح أربعة: الأول أن تتقدمه الدعوة إلى الإسلام، والثاني أن يكون بإذن الإمام، والثالث والرابع: الإعداد مع توقع الظفر بغلبة الظنّ، وتوقع الظفر ليس بتحقيق ما يسمونه توازن القوى أو تكافؤ القوى؛ فالأصل هو: (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله)، وإنّما المعيار هو ذلك المعيار المرن المتحرك الذي ورد في الأنفال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)) (الأنفال: 65-66)، والمقصود العام من الآيتين – وليست الثانية ناسخة للأولى على الصحيح الراجح – أنّ المؤمنين عليهم أن يعدوا ويستعدوا لعدوهم، حتى يغلب على ظنهم الظفر، بأنْ نضع في الاعتبار الفارق الذي يحدثه لدى المؤمنين إيمانُهم بالله، هذا الفارق – على الأغلب – لا يزيد عمّا في الآية الأولى، ولا يقل عمّا في الآية الثانية، فالمؤمنون في أدنى أحوالهم لا يُغلبون من مثليهم عددًا وعُدة، وفي أعلاها لا يُغلبون من عشرة أمثالهم عددًا وعدة، والحديث هنا عن ضابط من الضوابط التي يجب مراعاتها عند تقدير مدى توفر شرط الاستطاعة الذي يتخذ في ضوئه قرار الحرب في جهاد الطلب والغزو والفتح، أمّا ما يقال من أنّه يجوز للمسلم أن يفر من ثلاثة ولا يجوز أن يفرّ من اثنين، فهذا غير صحيح ولا شأن للآيات به، وإنّما الفرار من الزحف لا يجوز مطلقًا مهما كان الفرق العددي، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)) (الأنفال: 15-16)، أمّا هناك في الأنفال فحديث آخر يتعلق بتقدير الاستطاعة قبل الحرب.

والأمر في جهاد الدفع أهون، فعلى الرغم من كون إذن الإمام واجب لكون الجهاد من المهام العظام التي تناط في الأصل بنظر الإمام، إلا أنّه إذا عدم الإمام لم يتوقف الجهاد على إذنه، ولا يشترط الدعوة إلى الإسلام ولا استئذان الوالدين أو المدين ولا الذكورة ولا الحرية، كما لا يشترط توقع الظفر إنّما يشترط الإعداد بقدر المستطاع وحسب، لأنّ المعتدِي لا يُنظر المعتدَى عليهم حتى يُعِدُّوا إلى أن تبلغ قوتهم مستوى تَوَقُّع الظفر، هذا إلى جانب أنّ العدو إذا استولى على بلد من بلاد الإسلام فإنّه يمثل خطرًا داهمًا على دين الناس وعلى أرواحهم وأرزاقهم وأعراضهم؛ فلا يصح الإبطاء في دفعه ولا التواني في جهاده.

أمّا المصلحة فلا ينكر أحد دور المصلحة في كل ما هو من قبيل التنزيل كاختيار التوقيت واتخاذ قرار الحرب في الوقت المناسب والنظر في مدى تحقق شرط الاستطاعة وما شابه ذلك، أمّا أنّ حكم الجهاد يتحدد في ضوء المصلحة، وأنّ وجوبه يشترط له تحقق المصلحة؛ فهذا قطعًا يفتح الباب على مصراعية للتلاعب بحكم الوجوب، ولتعطيله وإيقافه، وهو مع ذلك افتئات على الربّ تبارك وتعالى؛ لأنّ القرآن الكريم حسم هذه القضية، وأغلق الباب دون من يحاول أن يعبث بعقله عند تخومها، ففي البداية ولدى فرض هذه الفريضة أول مرة نزلت هذه الآية التي تقرر أنّ الله تعالى – إذْ فرض الجهاد – يعلم ما لا يعلمه الناس عن نتائجه وآثاره، ومنافعه ومضاره، ويعلم غلبة مصالحه ومنافعه على مفاسده ومضاره، فالمبالغة في حساب العواقب تجعل الناس يكرهونه وهو خير لهم، قال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة: 216).

سؤال التحالفات ومخاطرها

تشهد الساحة اليوم تحالفًا بين المقاومة الفلسطينية ولاسيما حماس والجهاد وبين إيران وأذرعها في المنطقة، هذا التحالف ما حكمه؟ وما الذي يترتب عليه؟ فأمّا التحالف العسكريّ في ذاته فهو جائز بشروطه، مهما اختلفت هوية المتحالفين مع المسلمين، فالتحالف العسكريّ مع المشركين أو المبتدعة، وكذلك الاستعانة بهم في الحرب؛ جائز بشروط، أهمها: أن يكون الأمر المتحالَف عليه لا يخالف الشرع، وألّا تكون راية الشرك أو البدعة هي الظاهرة، وألّا يكون التحالف ضدّ مسلمين أو معاهَدين، وأن تكون الحاجة داعية إليه، ونحن نرى أنّ إخواننا في غزة وفلسطين محافظون على شروط الجواز لم يحيدوا عنها، وما نخشاه هو أن يتحول التحالف إلى تحالف استراتيجيّ فتتعانق المشاريع؛ مما يؤدي – حتمًا – لابتلاع القويّ منها للضعيف، وذوبان الضعيف منها في القويّ، ومما نأمله أن تتحرك شعوب الأمة فتعدِلَ بحكامها إلى الرشد والنجدة أو تعدِلَ عنهم إلى أهل رشدٍ ونجدة، أي: تخطو بهم أو تتخطاهم.

والمقاومة مضطرة إلى هذا التحالف معذورة في موقفها هذا؛ لأنّ الأنظمة التي تحكم المسلمين خذلت القضية، بل تآمرت عليها، وهذا لا يعني أنّ إيران وأذرعها مخلصون للقضية، وإنّما هي كيان صاحب مشروع، ويرى أنّ تظاهره بنصرة القضية يعطي للمشروع بعدًا دعائيًّا على حساب الإسلام الصحيح، فهم يستثمرون حالة الخذلان والخيانة والعمالة التي انغمس فيها حكام العرب؛ ليثبوا على ظهرها إلى التوسع الدعائي المدعوم على الأرض بالتمدد والهيمنة، ومن ثمّ فإنّ المرابطين من أهل فلسطين مضطرون إلى الاستعانة بهم وقبول ما يقدمونه من عون مادّي وفني وتقني، فهو على قلته وما يمن وراءه من أغراض أفضل من العدم.

أمّا أنت ولستَ معذورًا، لستَ أنت أيها الْمُنَظِّر الرابض في الفضائيات، القابع في مواقع التواصل، لست من أهل العذر، دَعْ العذرَ للمرابطين الساهرين على الثغور، دعْهُ لأهل غزة والقدس وسائر الثغور، وقِفْ أنت على ثغر العقيدة والشريعة والحقيقة، وبَيِّنْ لأهلَ الإسلام أنّ إيران لها مشروع لا يمت إلى الإسلام بصله، ولا يطمع في التمدد إلا على حساب أهل السنة الذين هم أهل القبلة على الحقيقة، فلا تنخدع بمواقفهم الآنية وقد قتلوا من قبل الآلاف من المسلمين وهجروا الملايين وقاموا بتطهير عرقيّ لأهل الإسلام في العراق واللشام واليمن، فلسنا نرى موقفهم اليوم الذي يتظاهرون فيه بنصرة القضية إلا جزءًا من مشروعهم التوسّعيّ الإجراميّ، الذي يستهدف قتل المسلمين واحتلال بلادهم وطمس معالم دينهم، أي أنّهم ما وقفوا هذا الموقف إلا لغسل الجرائم السابقة والتسويغ للجرائم اللاحقة، والترويج للمشروع المناوئ.

والواقع الذي لا يدركه الكثيرون أنّ هناك تغيرًا جذريّا طرأ على الشيعة، يوشك أن ينهي ثنائية سنة وشيعة ويقضي على مسلمة سابقة تقول بأنهم من أهل القبلة بإطلاق، فالواقع الجديد هو أنّ أهل السنة هم أهل الإسلام وهم أهل القبلة، وأنّ فِرَق الروافض كانت في العهود الأولى توصف بالضلال والتشيع، أمّا اليوم فَجُلُّها مَسْخٌ يتمسح في التشيع، ونحن لكي نكون منصفين لا ينبغي أن نحكم عليهم بحكم واحد، فمَنْ لم يَقُلْ منهم بما استجدّ من عقائدهم، التي انغمس فيها إلى النخاع الخوميني الهالك وخامنئي المتربص، ولم ينخرط في ذلك المشروع الإيرانيّ الإجراميّ؛ فلا نتجشم إخراجه من دائرة أهل القبلة، أمّا الحكام ومن تآمر معهم من الملالي ومن تشيع لهم وناصرهم من جندٍ وميليشيات؛ فهؤلاء أعداء لأهل القبلة، انخرطوا في مشروع باطنيٍّ مُلْتَبسٍ لا يتميز فيه النَّفَس الشيعيّ عن الروح المجوسية والمزاج الصفويّ والطبيعة الباطنية؛ ومِنْ ثمَّ فإنّ دائرة أهل القبلة التي تتسع لتشمل كثيرًا ممن سموا في أدبيات العقيدة بالفرق الضالة تضيق عن هؤلاء الذين أفصحوا عن مذهبهم المحادد لله ورسوله والمؤمنين بما ارتكبوه من ضلالات ومجازر.

المقاومة إلى أين؟

هل ستتوسع الحرب الدائرة الآن لتكون حربًا إقليمية أو عالمية؟ سؤال أراه غريببًا؛ أوليست الحرب الدائرة الآن حربًا إقليمية وعالمية؟ وماذا ننتظر بعد أن تهدمت العراق وسوريا واليمن وليبيا والسودان وغزة والضفة ولبنان؟ إنّنا نعيش حربًا عالمية بالفعل، ولكنّها حرب عالمية على الإسلام وأهله، بدأت صولتها الأولى عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، يوم أن انطلقت الجحافل الصليبية من القارات الثلاث الأمريكية والأوربية والاسترالية، بدعم وتواطؤ من العالم كله شرقه وغربه، وبممالأة من الأنظمة العربية كافّة، فاجتاحت العراق وأفغانستان، ثمّ انثنت تنشر الخراب واليباب في ربوع العالم العربيّ على أثر الربيع العربيّ.

وما حرب الصهاينة على غزّة إلى حلقة في سلسلة الحرب العالمية على الإسلام، بالأمس قال بوش الإبن: من ليس معنا فهو علينا، واليوم جاء بايدين بحاملات الطائرات العملاقة مهددًا أي أحد يرفع عقيرته بالاستنكار مجرد الاستنكار، لتنفرد الجيوش الصليبية بالتحالف مع القوى الصهيونية بغزة؛ فهل ترى أنّ ذلك سببه أنّ غزة وحدها تحمل العداء لإسرائيل؟ أم لأنّ غزة شعلة على طريق التحرير يجب أن تنطفئ؟ كلا لن تتوقف الحرب ولو خرجت شعوب الأرض عن بكرة أبيها، وأين ومتى كان للشعوب تأثير بفعالياتها السلمية في قرارات الحكومات والأنظمة؟! سوف تستمر الحرب وتتوسع، وستطال كل من يفكر مجرد تفكير في الوقوف بجانب غزّة، أمّا كتائب عزّ الدين القسام وسرايا القدس فقد تعجز عن مواصلة نضالها، ومن المتوقع أن تغير استراتيجيتها من التحصن بغزة إلى الانتشار في صورة أنوية مقاومة في فلسطين كلها، وأمّا المقاومة فلن تموت، وسيخلف القسام ألف قسّام، وستبقى تجربتهم ملهمة للأجيال.

وقد تنجح المقاومة الحالية في إحراز نصر مرحليّ، وليس ذلك على الله بعزيز، ولكن بحسب السنن والنواميس من الصعب الاعتقاد بقدرتهم على الاستمرار وقد عزمت قوى الشرّ على استئصالها، لكن في المقابل نرى إسرائيل تسرع نحو حتفها، بتوسيع خط المواجهة، وتعميق دوائر الصراع، فإنّ خارج حدود فلسطين لرجالًا يتشوقون للموت في سبيل الله، وإنّها لحرب عقيدة قبل كل شيء آخر؛ لذلك فسوف يزداد عنفها مع ازدياد حالة الفشل في المشروع الصهيونيّ الذي افتضح أمره وانكشفت عورته، وإنّها لفرصة لنا نحن المسلمين، وإنّنا لنرى النصر والتمكين قريبًا، والله غالب على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون.

اقرأ أيضا: