لَاحَ لي منذُ البداية أن أُعَنْوِنَ للمقال بعبارة “فلسفة الدعاء”؛ لكونها أقرب في ظاهر الاستعمال إلى ما سأتعرض له، لكنّني سرعان ما عدلت عنها إلى هذه الصياغة؛ لأنّني – إذْ لم أقصد بالفقه معناه الاصطلاحيّ – عَمَدْتُ إلى لفظة في اللغة أكثر عمقًا وشمولا، فالفقه في أصله ليس إلا الفهم على نحو من العمق والاستقصاء، وذلك غاية ما نريد، فما نرمي إليه تحديدًا هو: كيف نَفْقَهُ الدعاء وكيف نوظفه بالصورة الأمثل لتحقيق الغايات وبلوغ الأمنيات؟ فنحن – إذَنْ – طُلَقاء من قيود القولبة أيًّا كانت.
الأصل في الدعاء أنّه مستجاب
لسْتُ معترضًا على ما قرّره العلماء من شروط الدعاء وموانعه، ولكنّ الإسراف في عرضها مع إغفال ما يقابلها هو مَنْشَأُ الخلل، فالأصل أنّ الله تعالى مُجيبُ الدعاء، وأنّ الردّ يأتي على وجه الاستثناء، والذي يخبرنا بالحقيقة هو الله تعالى في كتابه، فها هو القرآن يقرر في العديد من المواضع وبأساليب متنوعة أنّ المضطر ولو كان كافرا تُستجاب دعوته إذا لم يُشرك فيها مع الله أحدا، ففي يونس: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ . فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ)، فقد أنجاهم الله تعالى مع علمه الْمُسْبَق بأنّهم سينكثون العهد وينكصون على أعقابهم، وفي النّمل خطابٌ لا يخص المؤمنين وحدهم: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ)، وفي الصحيحين أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل معاذ بن جبل إلى اليمن – وهم أهل كتاب – ليدعوهم بتدرج إلى الإسلام وإلى شعائره، فكان مما أوصاه به: «واتق دعوة المظلوم، فإنها ليس بينها وبين الله حجاب»؛ لذا رَجَّح كثير من العلماء أنّ الله قد يستجيب دعوة الكافر؛ فكيف بالمؤمن؟
الدعاء والعبادة
قد لا نكون بحاجة إلى تَكَلُّف تصحيح حديث (الدعاء مخُّ العبادة)؛ فقد تولى القرآن الكريم تقرير هذه الحقيقة بطريقته الفذَّة، فقد قرن الله بينهما في أكثر من موضع بطريقة تجعل العبادة مرادفة للدعاء، فقال تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)، وقال سبحانه: (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا)، ففي الآيتين وضعت العبادة في موضع الدعاء، بما يعني أنّ الدعاء صلب العبادة ومخها، ومع ذلك فالحديث يرتقي بطرقه وشواهده لمستوى الحسن، وقد صح سندا حديث النعمان ابن بشير مرفوعا: (إنّ الدعاء هو العبادة)؛ وهذا يعني أنّ المسلم حينما يدعو ربه فيحسن الدعاء فإنّه يَبْلُغُ غايتين أساسيتين، الأولى: تتحقّقُ بالدعاء مسألتُهُ التي دعا بها، الثانية: يحصدُ بهذه العبادة أجرًا وثوابا، وثَمَّ أثرٌ ثالث للدعاء وهو أنّه يهذب النفس ويربيها على الضراعة واللجأ والافتقار والانكسار، وهي معاني من صلب العبودية.
لا يُحرَم من دعا ولا يُخذَل من لجأ
وعندما يتقرر أنّ الأصل هو أنّ الدعاء مستجاب، فهذا يعني أنّ هذه القاعدة لها مستثنيات، لكنْ ما ينبغي للمسلم أن يعلمه ويستيقنه أنّ هذه المستثنيات جميعَها تأتي من جهة العبد لا من جهة الله تعالى، فالعبد هو الذي يضع بيده الموانع في طريق دعوته، فمن أشرك مع الله في الدعاء إلها آخر، ومن دعا بإثم أو بقطيعة رحم، ومن أساء الظنّ بربه، فهؤلاء وأمثالهم تسببوا من جهتهم في فساد الدعوة بما يمنع ترتب الإجابة عليها، فإن سَلِمَتْ الدعوةُ من الموانع فإنّ الداعي لا يحرم قَطّ، وقد جاء في الحديث: (ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم، ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يُعَجّلَ له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها)؛ والسبب الذي وَلَّدَ هذه الخيارات الحسنة هو اجتماع حقيقتين، الأولى: أنّ الله لا يردّ داعٍ دعاه، والثانية: أنّ الله قد وضع في كونه نواميس أعطاها صفة الثبات والاستقرار؛ فلا العبد إذْ دعا ربه ولجأ إليه يُحْرَم، ولا السنن الإلهية والنواميس الربانية تخضع لمراد العباد ورغباتهم، وهذا موضعٌ دقيقٌ تلتقي فيه إرادة الله النافذة مع رحمته الشاملة، ويجتمع فيه شمل المشيئة الغالبة مع الجود الواسع.
من فقه الدعاء إلى فنّ الدعاء
إذا سَلِمَتْ الطبيعة واستقامت النّفسية فغالبًا ما يُسْلِمُ التفَقُّهُ إلى التفنُّن، ولا يحتاج التفنن في الدعاء إلى كبير جهد؛ فقد تَوَلَّى الوحيُ بيانَ ذلك بأجلى صور البيان، فينبغي أولا أن يعرف العبد كيف يدخل على ربه بمسألته، وأوسعُ المداخل للدعاء بابُ الثّناء، لذلك إنْ تأملتَ الأدعية القرآنية وجدتَها تُدْغِمُ بالدعاءِ الثناء، كما في قوله تعالى: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) وقوله عزّ وجل: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)، وهكذا، وستجد في السنة أمثلة على ذلك كثيرة، كذلك ينبغي أن يكون القلب حاضرا وأن تكون أوتاره مشدودة بمعاني العبودية المناسبة لمقام الدعاء كالافتقار والانكسار، وقد شبه بعضُهم القلبَ بالقوس والدعوةَ بالسهم؛ فبقدر ما تكون أوتارُ القوس مشدودةً يخرج السهم قويا، وكذلك يكون خروج الدعاء من القلب، فاحرص على ذلك.
وقد يدفعك شعورك الدائم بالتقصير إلى أن تقدم بين يدي دعائك استغفارا طويلا، وقد تشعر بحالة من العرفان فتقدم المحامد في سلسلة ذهبية، وكثيرا ما تحُفُّ دعوتَكَ بالصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ باعتبار أنّها لا تُرَدُّ؛ فما جاورها يصعد ببركتها، وفي كثير من الأحيان تَسْبِقُ الْمَهَرَةَ بإسلامِ نفسِك إلى المصدر المعصوم، فتكثر من الأدعية الوادرة من الكتاب والسنة، وهذا أسلم .. والله أعلم.
المصدر: رسالة بوست