كَأَنَّ هؤلاء الذين يحكموننا عبيدٌ مناكيد، قد استأجرهم علينا جبارٌ عنيد، يجري وراءهم بالسوط ويَجْرون أمامه بسياط يلهبون بها ظهورنا، فلا هو يصبر عليهم، ولا هم – لو غفل عنهم – يصبرون علينا؛ لذلك يلا حقوننا أبدا، ولا يملون من مطاردتنا في كل فجّ نسلكه، وليس في وسعهم أن يتركوا فيها حجرا على حجر، حتى “الأسرة” التي ظلت على مدى الدهر ملاذا آمنا؛ لم تَسْلَم من نَزَقهم، فها هم أُوْلَاءِ ينحدرون نحوها كأنّهم أشباحٌ تَهُبُّ من الماضي السحيق لا ترتدع ولا تستفيق!
إنّ الفراغ أَبْرَزُ أمارات الضياع، وليس أدل على الفراغ من الانشغال بما لا مشغلة فيه، هذا أقل ما يوصف به النظام المصريّ، في انصرافه عن القضايا الكبرى التي يبلغ تهديدها للأمّة المصرية أن صارت تحديات وجودية، إلى اهتمامات أقل ما توصف به أنّها زوائد فضولية، هذا أقل ما يوصف به النظام الذي يحكم مصر، وإلا فإنّ تعمد الهدم لثوابت الأمّة تفوح رائحته من تصرفاتهم وتحركاتهم؛ لِتَجْتَمِعَ على الناس مصيبتان، مصيبة في دينهم ومصيبة في دنياهم.
هل للمرأة المصرية قضية
ليس للمرأة المصرية شكوى ضد الرجل أو قضية، وإنّما تتمثل شكوى الرجل والمرأة وقضية المجتمع كله بكافّة مكوناته في شيء واحد، ألا وهو حالة الإحباط التي أصابت الجميع بسبب الفشل التام والعام في كافّة الميادين، الفشل الاقتصادي والفشل السياسي، والفشل التعليمي والإعلامي والتوعويّ، والفشل – حتى – الأمنىّ، وتعرض الأمن القومي للبلاد للمخاطر الجمة التي تهدد وجود مصر ذاتها وشعبها ذاته.
أمّا الأسرة المصرية فليست بحاجة إلي ما يقترحون لها من قوانين؛ فليرفعوا أيديهم عنها؛ لأنّه لم يبق للناس ملاذٌ آمن غيرها، بعد أن تولت الشرذمة المارقة في المجتمع – برعاية من النظام – مسئولية تدمير أخلاق الشباب والفتيات، وتَتْفِيْهِ البنين والبنات، إنّ الأسرة المصرية التي نمت وترعرعت على عين الشريعة الغراء هي الحصن الأخير للأخلاق، وهي خط الدفاع الأول ضد الغارات التي تشنّها على المجتمع جهات عديدة، جميعها تستهدف تفتيت النسق الأخلاقي الذي درج عليه شعب مصر، وجميعها يرعاها النظام ويروج لها ويطارد من يعارضها.
حُمَّى القوانين
إنّ هذه الحمى التي أصابت مؤسسات الدولة من أعلاها إلى أسفلها تثير الاشمئزازا حقا؛ ما هذا الاهتمام المفرط بالأسرة وقوانينها؟ البرلمان الذي لم يبذل جهدا لمناقشة المشكلات المستعصية يسابق الزمن من أجل إصدار قانون جديد للأحوال الشخصية، والمجلس القومي للمرأة يتقدم بمطالب عاجلة في مشروع القانون الجديد، ورئيس الدولة يستحث الجميع، ويطل في الإعلام أكثر من مرة متحدثا في تفاصيل تخص أهل الفقه والفتوى، ما هذا السعي الحثيث وما هذه الحمى المسعورة، ولماذا هذه (الصربعة)؟ لماذا والمرأة المصرية لم تَشْكُ لِمُشَرِّقٍ منهم أو مُغَرِّب؟!
لن أخوض في التفاصيل الفقهية، التي تكفي إلمامةٌ سريعةٌ بها للكشف عن حجم المخالفات التي تَدُبُّ وتَسْرِي في أوصال كل هذه المشاريع النكدة، فَلَمْ يَقُلْ الفقهاءُ بأنّه يشترط للزواج الثاني موافقة الزوجة أو مراجعة القضاء، وليس في مذاهبهم بطلان الطلاق الشفويّ واحتياجه لكي يصح إلى حضور أمام منصة القضاء، وحقُّ الكدّ والسعاية لم يَرِدْ في مذاهب أهل العلم كحكم شرعيّ ثابت، اللهم إلا بعض الفتاوى المتناثرةِ تناثرَ الشعيرات النادرة على وجه الحسناء، يقضي الذوق والمنطق – والشرع كذلك – بمحوها كلما تفحشت وخرجت عن حدّ الاعتدال.
المآلات المخيفة
لن أخوض في شيء من ذلك؛ إذْ لا يتسع للتفصيل مقالٌ صحفيٌّ يَنْحو إلى الكليات ويَنْبو عن التفاصيل والجزئيات، وسأتوجه بحديثي هنا إلى المآلات، فإنّ المتفحص في هذه المشاريع والاقتراحات، يتأكد له أنّ مآلها جميعا إلى الإضرار بالأسرة والمجتمع، بل وبالمرأة كذلك؛ لأنّ افتعال الحقوق لطرف من الأطراف يؤدي إلى وقوع الجور على الطرف الآخر؛ مما يترتب عليه انعدام الاستقرار.
إنّ هذه الحزمة من القوانين التي تقترحها هذه المشاريع الطائشة، تأخذنا إلى النموذج الغربيّ بحذافيره، وبآثاره المدمرة كذلك، وهذه الأسرة التي يريدون تفجيرها بهذه القوانين الفاقدة للمشروعية ولأدنى درجات الحكمة التشريعية سوف تتفجر بالفعل، وسوف يُقْضَى على تعدد الزوجات ليحل محله تعدد الخِدْنات، لن توافق امرأة واحدة لزوجها على الزواج الثاني إلا بمكارهة ومضاجرة تحول حياتها إلى جحيم لا يطاق، فإن أصرت وتحملت ما سيركبه من ألاعيب وحيل فلا يلبث الرجل أن يبحث له في الظلام والحرام عن بديل بين النساء اللاتي حُرِمْنَ من النكاح بسبب تعنت أخواتهن المتزوجات؛ لِيَخْرُجَ لنا جيلٌ عريض من اللقطاء الذين تغص بهم الحياة والذين يتحولون إلى أدوات هدم بأيدي من يملكون المال والسلطان ولا يخشون الواحد الديان.
ولن يقف الأمر فيما يتعلق بما يسمى بحق الكَدّ والسعاية عند حدود الزوجة التي تَكِدُّ وتسعى، حتى يتسع ويمتدّ؛ ليتجاوز ذلك الشرط في طريقه صوب العموم والشمول؛ ولم لا؟! أليست المرأة في بيت زوجها تعمل وتكدّ في تربية الأولاد وتهيئة البيت وخدمة الزوج؟ فَلْتُقاسِمْ الزوجة زوجها على كل حال وعندها سوف تتبخر من الحياة الزوجية كل معاني الوفاء والتعاون والتكافل؛ ليحل محلها المحاسبة والمراقبة، بل والإشراف الرقابي من الزوجة على حسابات الزوج ويؤول البيت إلى متجر، والحياة الزوجية إلى شركة، وتنطفئ في بيوتنا كل المعاني التي تُعَدُّ البيئةَ الصالحة لإنبات النشء وتربية الجيل.
وقفة العلماء
فهل سنرى للأزهر ورجاله وشيخه وقفة ضد هذه الغارة التَّقْنِينِيَّة، التي تستهدف تدمير الأسرة، وإشاعة الفساد في المجتمع، والتي تُعَدُّ – قبل ذلك – خروجًا صريحا على أحكام الشريعة؟ نتمنى ذلك، ولا نعدم الخير فيهم، ولا في علماء الأمّة وهيئاتها الشرعية، والله المستعان.