قبل الاستطراد في إجلاء حقيقة يسر الإسلام

هاتان الوقفتان لا بد منهما قبل الاستطراد في إجلاء هذه الحقيقة الكبيرة.

الوقفة الأولى:

ينبغي أن نعي جيدًا أن يسر الإسلام ينبثق من حقيقة كبيرة وهي أن هذا الدين يلائم فطرة الإنسان ويناسب تكوينه ولا يصطدم مطلقًا بأي جانب من جوانبه الشعورية أو الوجدانية أو الجسدية أو الغريزية. ونحن عندما نفهم الأمر على هذا النحو لن نجد صعوبة في تفسير ظاهرة موجودة في واقع الناس. وهي أن شرائع الإسلام هينة على فريق من الناس، في حين أن كثيرًا من الناس يشق عليهم القيام بأقل التكاليف في شريعة الإسلام.

وزيادة في الإيضاح نقول: أنه ما دام الإسلام يتفق مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها وأن هذا الاتفاق والاتساق هو منبع اليسر، فإن من فسدت فطرته وانتكست فلن يشعر بهذا اليسر، لا لأن الدين عسر ولكن لأنَّ فطرته هو فسدت فلم تستقم على هذا الدين.

وأما من استقامت فطرته فهذا هو الذي يشعر بيسر الإسلام ويسعد به.

وهذا هو بعض ما يفهم من قول الله تعالى:

﴿ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾[1] [البقرة: 45]، وقوله جل شأنه ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾[2] وقول النبي لمعاذ عندما سأله عن عمل يدخله الجنة ويباعده عن النار” لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه”[3].

وعليه ينبغي ألا يفسر طبيعة هذا الدين بما يشعر به بعض من فسدت فطرتهم. كما ينبغي إذا شعرنا ببعض الثقل في القيام ببعض التكاليف الربانية أن نجتهد في إصلاح أنفسنا وتهذيب فطرتنا حتى تستقيم مع هذا الدين ليتحقق لها اليسر الحقيقي، ويكون ذلك بالاجتهاد في حمل أنفسنا على الحق حتى يكون هواها تبعًا لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.

“لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به”[4]

وثمرة المجاهدة للنفس وحملها على الخير هو الهدى والاستقامة ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾[5].

وينبغي كذلك ألا نستهين بهذه الشريعة لكونها يسر ولا عسر وذلك لأن اليسر سر الكمال والجمال ودليل الاتفاق والاتساق بين فطرة الله التي فطر الناس عليها وبين الشريعة الربانية التي ارتضاها الله تعالى للناس.

أما التعقيد فيه فمنشأه الاصطدام بين الفطرة والشرائع المتعسفة، الشرائع والقوانين التي وضعها البشر والتي تبعد بهم كثيرا عن حقيقتهم التي فطرهم الله عليها

إن الإسلام هو دين الفطرة وهذا هو المنشأ الأول والأكبر ليسره ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾[6].

الوقفة الثانية: يفهم كثير من الناس هذه الحقيقة فهما معلولا، بل مقلوبا فيتصورون أن يسر الشريعة رخصة مطلقة في جيب كل واحد منهم.

فإذا قلت لأحدهم: يا أخي نحن نفتقدك في صلاة الجماعة.

أو: ما بالك مفتون بسماع الغناء وهو فتنة من وجوه كثيرة.

أو: إننا مشفقون عليك من التعامل مع البنوك الربوية.

أو غير ذلك من النصائح التي تنشله من الهوى والردى تراه يهز كتفه وينغض لك رأسه من النصائح ويقول ” الدين يسر” فهذا فهم اليسر في الإسلام على غير حقيقته. فهم أن التيسير بيده هو، فراح يهرب من مهمته الحقيقة في حمل نفسه على هذا الدين الى اللجوء إلى التيسير في حقائق الدين لتوافق هواه، وهذا ليس تيسيرا بل هو وتبديل لشريعة الله الكاملة وتحريف وتأويل لأوامر الله ونواهيه.

إن هذا المفهوم المعلول يعكس انحرافات خطيرة في التصور والشعور وواقع الحياة أيضا.

فالذي يفهم هذا الفهم الشائه يتصور أن الله تعالى وكل إلى عبادة التعديل في شريعته – كل حسب هواه – لتوافق الأهواء وما تشتهيه. وهذا تصور مخالف أشد المخالفة لقاعدة العبودية التي قام عليها بنيان هذا الدين. فالعبد لا يملك أن يغير شيئا مما شرعه الرب تبارك وتعالى:

﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ ﴾[7].

﴿ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ ﴾[8].

ووراء هذا التصور المختل شعور فاسد وهو الشعور بالاستهانة والاستهتار بهذا الدين والتلاعب به والحط من قدره.

ووراء هذا كله: أن الدين في واقع الحياة ألعوبة في أيدي الناس يتحللون كيفما ساءوا من تعاليم الشريعة ثم يخرجون من جيوبهم الرخصة المطلقة:” الدين يسر”.

كلا…

ليس هذا بالفهم الصحيح

إن الدين يسر نعم. ولكن ما معناه؟

معناه: أنه نزل من عند الله يسراً.

معناه: أن الإسلام بما فيه من شرائع واجبة التنفيذ جاء من عند الله يسراً لا عسر فيه.

معناه: أن الشرعية التي يجب علينا أن نأخذ بها لن نجد حرجاً في الأخذ بها لأنها جاءت من عند الله سهلة هينة لا شدة فيها ولا آصار ولا أغلال

معناه: أن اليسر صفة نول بها هذا الدين من عند الله، وليس رخصة منفردة بيد الخلق

هذا هو المعنى الصحيح لهذه الحقيقة، وإذا رجعت الى التعقيبات القرآنية التي ذيل الحق تعالى بها آيات الأحكام والتي ذكرناها في مقال ” تذييل بالرياحيين ” ثم تأملتها مليًّا فسوف يتبين لك صحة ما قلناه.

وسوف تزداد فهما لهذا الأمر إذا تأملت الفصل الثاني من هذا البحث والذي سيكون الحديث فيه عن مظاهر اليسر.

فإذا تأملت هذه المظاهر علمت أن اليسر صفة ملازمة لهذه الشريعة نزلت بها من عند الله، نزلا من عند الله سهلة يسيرة لا عسر فيها ولا حرج.

كل ما فيها من عزائم ورخص وكل ما فيها من أوامر ونواهي وكل ما فيها من واجب ومستحب ومباح ومكروه ومحرم، وكل ما فيها من تكاليف ينبني عليها الثواب والعقاب، كل هذا جاء من عند الله هينا لا شدة فيه، جاء من عند الله متفقا مع فطرة الإنسان، جاء من عند الله داخلا فيطوق الاحتمال ودائرة الوسع والطاقة، لا يخرج عن قدرة الإنسان ولا ينافي فطرته ولا يصطدم بغرائزه وحاجاته الطبيعية جاء ملبيا لحاجة الروح وحاجة الجسد في تناسق وشمول وبأسلوب مهذب نظيف.

هذا هو المعنى الحقيقي لليسر.

أما أن نفرط في دين الله ونترك الواجبات ونقع في المحرمات ثم نقول باستهانة أو جهل أو لا مبالاة “الدين يسر” فهذا هو التلاعب بدين الله، وهذا هو التشويه الذي يأخذ الأقدام أخذا شديدا عن صراط الله المستقيم

ها نحن قد تأهلنا للمضي فإلى القادم من المقالات التي تكشف لنا النقاب عن بهاء وجمال ويسر هذا دين؛ بالحديث عن مظاهر اليسر في الإسلام مظهرًا مظهرًا، مع ضرب أمثلة واستدلال بنصوص الشرع؟ فانتظرونا..

[1] [البقرة: 45].

[2] [البقرة: 143].

[3] رواه الترمذي عن معاذ بن جبل.

[4] رواه الأئمة في المسانيد عن عبد الله بن عمرو بن العاص.

[5] [العنكبوت: 69].

[6] [الروم: 3].

[7] [الشورى: 21].

[8] [النحل: 116].