قراءة في فكر: “مراد هوفمان” (3 من 3)

الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..

“لولا الوحي لَظَلَلْنَا عميانا” عبارة وردت في كتاب مراد هوفمان: “يوميات ألماني مسلم”؛ فهل مَثَّلتْ خاصية موثوقية الوحي في الإسلام مناط الأمل ليكون الإسلام هو البديل الذي سيرث الحضارة المعاصرة في فكر مراد هوفمان؟ لقد طغى على الرجل في كتاباته التبشير بأنّ المستقبل في الغرب للإسلام، وكانت مسألة التفسير للوجود وللقضايا الميتافيزيقية الملحة وفشل الفلسفة الغربية في حل ألغازها أحد أسباب هذا التبؤ الكبير، يقول هوفمان: “إنّ أكثر ما يثير انتباهنا هذه الأيام هو إدراكنا المثير للأسف بأنّ إخضاع القضايا الميتافيزيقية لمنهج تفسير منطقي لن ينتهي بنا إلا إلى نتائج لا منطقية، والحقيقة أنّ هؤلاء الرواد من الفلاسفة لم يبرهنوا إلا على مسألة واحدة فقط، وهي أنّنا لا نستطيع من خلال منطقنا الإنسانيّ أن نصل إلى إدراك حقيقة المجهول بشكل يقينيّ … لولا الوحي لظللنا عميانا”([1]).

    وبعد أن طوف حول نماذج عديدة من الفشل الفكري في الغرب، وحالة اليأس من إيجاد إجابة مقنعة على الأسئلة الكبرى في الوجود، صاح صيحة الإيمان: “ولقد وقفتُ خلال هذا الجهد على أنّ الموقف الفكري النموذجي لمعتنقي (اللاأدرية) يفتقر إلى الذكاء، وأنّ الإنسان لا يملك ببساطة الهروب من اتخاذ قرار بالإيمان، وأنّ خلق الكائنات التي توجد حولنا هو أمر واضح، وأنّه مما لا شك فيه أنّ هناك أعظم انسجام ممكن بين الإسلام والحقيقة الكلية”([2])، وبعد جولة مشابهة في كتابه الآخر “رحلة إلى مكة” وثب هذه الوثبة: ” فمن الواضح أنّ الإسلام يجرؤ على طرح نفسه بديلا للحضارة الغربية”([3]).

    إنّ الوعي الأوربيّ في هذه الأيام في حالة تشبه حالة السكران إذا أشرف على الإفاقة من سكره؛ فهو يتقلب ويتململ ويفرك عينيه ويحاول أن يستعيد ذاكرته، وإنّ الأسئلة الكبرى التي لا يمكن فطريا أن تظل مطوية منسية تتحرك من جديد فلا تجد لها في الثقافة الغربية إجابة، يقول المفكر الغربيّ “إيدموند . ج . بورن”: “كما أخفقت الرؤية المادية للعالم بشكل مستمر في الإجابة بشكل مناسب على أسئلة قديمة مثل: معنى وغرض الحياة المطلق، وبقاء الوعي بعد الموت، ووجود ذكاء أعلى من الكون”([4])، ثم يوجه دعوة يبدو أنّه من الصعب أن تجد لها صدى في عالم يهيمن فيه على الميتافيزيقا الفكر الكنسيّ المحرف المخرف، فيقول: ” ما الذي يمكن أن يحدث لو اقتربت مفاهيم العلم  والدين عن الواقع أو حتى تزاوجت، إنّ هذا يعني أن رؤية الواقع التي تشترك فيها معظم الإنسانية ستحتاج بالتأكيد لأن تتسع فيما وراء الرؤية المادية الآلية المسيطرة على العالم الحاضر”([5]).

    وإذا كان هذا المفكر لم يدرس الإسلام ولم يتعرف عليه؛ فإنّ هناك من درسوا ووجدوا البديل، من هناك من وجدوا ضالتهم وضالة أوربا والغرب كله في الإسلام، فقرروا أولا أنّ ما يتمتع به الغرب الآن إنّما هو بفضل الحضارة الإسلامية، يقول “محمد أسد”: “إنّ تحرير العقل الأوربي من القيود العقلية التي فرضتها عليه الكنيسة المسيحية قد اتفق في أثناء النهضة التي كانت مدينة إلى حد بعيد لذلك العامل الثقافي الذي كان العرب ينقلونه إلى الغرب”([6])، وإلى ذات الحقيقة يشير “منتوجمري وات”: “اهتمام الأوربيين بأرسطو لا يرجع إلى المقومات الأساسية لفلسفته وحسب، وإنما يرجع كذلك إلى انتمائه إلى تاريخهم الأوربيّ، وبتعبير آخر فإنَّ إحلال أرسطو مكان الصدارة في الفلسفة والعلوم ينبغي النظر إليه باعتباره مظهراً لرغبة الأوربيين في تأكيد اختلافهم عن المسلمين، ولم يكن هذا النشاط السلبيّ تماماً – المتمثل في التنكر للإسلام – أمراً سهلاً، بل كان في الواقع أمراً مستحيلاً – خاصة بعد كل ما تعلمه الأوربيون من علوم العرب وفلسفتهم – ما لم يكن قد صاحب هذا التنكر نشاط إيجابيّ متمثلاً في الدعوة إلى العودة إلى ماضي أوربا الكلاسيكيّ، أي إلى حضارتيّ الإغريق والرومان”([7]).

    أمّا الدكتور هوفمان فيوجه أولا هذه السهام الخارقة لجسد الثقافة الغربية؛ تمهيدا لإقرار الحقيقة التي تلح عليه إلحاحا شديدا، وهي أنّ الإسلام هو البديل: ” ليس المسلمون وحدهم من يعترضون على الاستبدال الخاطئ للدين … يتحدث الناس عن رفض عالم المادة والعودة لما وراءها … بدأ الناس يتعرفون ثانيا على المساندة المتبادلة بين السياسة والدين … أصبح العلماء أكثر تواضعا عندما تبين لهم أن ما أسموه قوانين الطبيعة إنّما هي معلومات أولية وأنّ العالم لا يقوم على فهمنا الساذج لمبدأ العلية”([8]).

    ثم بعد أن تحدث عن دعامات الاقتصاد الإسلاميّ قال: “فنظرا لطبيعة الحياة الاقتصادية المتغيرة إذا قرأنا نظريات آدم سميث ودافيد ريكاردو وتوماس مالتوس وكاريل ماركس وجون كينز وبول ساملسون؛ سنكتشف أنّنا نقرأ تاريخ الأخطاء الاقتصادية وليس تاريخ الاقتصاد”([9])، وهذا كله للتوطيد والتمهيد للحقيقة التي رآها عيانا وآمن بها من أعماق قلبه وبشر بها في جميع كتبه.

    ولا ينسى في غمرة التبشير بالإسلام أن يحذر المسلمين من يقدموا هم بسلوكياتهم صورة تهين الإسلام وتقلل من نظرة العالم له فيقول: “يستطيع المسلمون أن يأملوا في تحسن لصورة الإسلام بشرط أن يكونوا على استعداد تام للاعتراف علانية ودون مواربة بأنّ العالم الإسلاميّ يساهم بنصيب وافر في تشويه صورة الإسلام؛ لأنّ هذا العالم نفسه لا يسير على نهج الإسلام”([10]).

    ولا ينسى في طروحاته المتتابعة كأمواج البحر أن يدافع عن الإسلام الذي يراه قادما، ويوغل في الدفاع حتى بتعرض في كثير من المواضع لمسائل جزئية أساء الغرب فهمها بسبب تشويه المستشرقين وضعف أمانتهم العلمية، فعلى سبيل المثال يقول ردا على من يعترون على حد العاهرة: “ومع ذلك فقبل رجم أميرة – كما حدث في الثمانينات – لابد وأنّها مع قرينها استثارا إدانتهما بتحديهما الصارخ شكلا ومضمونا للنسيج الاجتماعي في الإسلام؛ لارتكابهما تلك الجريمة باستهتار وعناد”([11])، ومن أمثلة ذلك رده على شبهة انتشار العقيدة الإسلامية بحد السيف، فيقول: ” فإن كان صحيحا من الوجهة العسكرية أنه لم تستطع أي قوة أن تصمد أمام حماسة المسلمين؛ فإنّه أيضا صحيح بنفس الدرجة أنّه لم يكن بوسع تلك القوات قليلة العدد أن تسيطر على تلك المساحات الشاسعة ما لم يرض بها الأهالي وينضموا تحت لوائها”([12]).

    وإذا كان صمويل هنتجتون قد برهن على ظاهرة صدام الحضارات؛ فإنّ هوفمان قد اكتشف الدوافع الخفية وراء هذا الكلام، فيقول: ” لقد ثبت أنّ نظريات صمويل هنتنجتون بشأن صدام الحضارات الذي لا مفر منه خاصة بين الغرب والإسلام بكافّة أبعاده الدموية ما هي إلا صيحة إنذار ذات طبيعة دفاعية في المقام الأول”([13])، وإذا كان الغرب يزهو على العالم بالديموقراطية ويرى أنّ التجربة الغربية هي نهاية التاريخ الإنساني ومستقر الإنسان الأخير كما يدعي فوكوياما فإنّ هوفمان لا يتردد في توجيه سهام النقد لذلك الصنم فيقول: “اتجه المسيحيون بعد عدة قرون للديمقراطية؛ حتى أصبح كل المطلوب عدد الأصوات؛ الذي يكفل اختيار وكيل عريف سابق (هتلر مثلا) أو ممثل سابق (ريجان مثلا) أو رئيس مخابرات سابق (بوش مثلا) رئيسا للدولة؛ مثلهم في ذلك مثل أستاذ جامعي محترم متخصص في العلوم السياسية”([14]).

    وأخيرا فإنّ الإحاطه بجميع ما قددمه في خدمة الإسلام تضيق الصفحات عن تحقيقه، ونحن ندعو القراء في العالم الإسلاميّ إلى الاهتمام بهذا اللتراث وتعظيم الاستفادة به.


([1]) يوميات ألماني مسلم – مراد هوفمان – ت د. عباس رشدي – مركز الأهرام للترجمة والنشر – القاهرة – ط أولى 1993م صـــ46-47

([2]) يوميات ألماني مسلم – مراد هوفمان – ت د. عباس رشدي – مركز الأهرام للترجمة والنشر – القاهرة – ط أولى 1993م صـــ 73

([3])  رحلة إلى مكة – مراد هوفمان – العبيكان – الرياض – ط أولى 2001م صــــ208

([4]) التغير العالميّ من أجل بشرية أكثر إنسانية – إيدموند . ج . بورن – ت سماح زهران – المركز القومي للترجمة – مصر – ط 2015م – الهيئة العامة للمطابع الاميرية صــــــ 120

([5]) التغير العالميّ من أجل بشرية أكثر إنسانية – إيدموند . ج . بورن – صــــــ 175

([6])  الإسلام على مفترق الطرق – محمد أسد – ترجمة عمر فروخ – دار العلم للملايين – بيروت – ط 1987م صـــــ42

([7])  فضل الإسلام على الحضارة الغربية – مونتجومري وات – ترجمة حسين أحمد أمين – دار الشروق بيروت لبنان – ط 1983م صـــــــــ107-108

([8]) الإسلام كبديل – د. مراد هوفمان – ترجمة: عادل المعلم – دار الشروق – القاهرة – ط أولى 1997م صــــ51

([9]) ر: الإسلام كبديل – د. مراد هوفمان – ترجمة: عادل المعلم – دار الشروق – القاهرة – ط أولى 1997م صــــ94

([10]) الإسلام في الألفية الثالثة ديانة في صعود – د. مراد هوفمان – ترجمة: عادل المعلم وزميله – مكتبة الشروق – القاهرة – ط ت بدون صــــ88

([11]) الإسلام كبديل – د. مراد هوفمان – ترجمة: عادل المعلم – دار الشروق – القاهرة – ط أولى 1997م صــــ144

([12]) الإسلام كبديل – د. مراد هوفمان – ترجمة: عادل المعلم – دار الشروق – القاهرة – ط أولى 1997م صـــ 17-18

([13]) الإسلام في الألفية الثالثة ديانة في صعود – د. مراد هوفمان – ترجمة: عادل المعلم وزميله – مكتبة الشروق – القاهرة – ط ت بدون صــــ12

([14]) الإسلام كبديل – د. مراد هوفمان – ترجمة: عادل المعلم – دار الشروق – القاهرة – ط أولى 1997م صــــ88