اتفق مع الشيخ تمام الاتفاق في هذه الجمل التي بادر بطرحها في مستهل مبحث عقده عن بعض المجتمعات الغربية: “الغرب في أمر مريج، لا يثبت على قول أو مذهب … وهكذا اختلف الكفار قديماً: هذا النبي شاعر أم ساحر أم كاهن أم مفتري أم مجنون …” صـــ 1281 وبعد تأكيد لهذا المنطلق يدلف إلى عمق الأزمة الغربية: “ومعايير الغرب منكوسة معكوسة … ومما يدلك أنَّ معايير الغرب مقلوبة وأن فطرتهم منكوسة اعتقادهم أنَّ لحم الخنزير خير من لحم الإبل، وأنَّ الرجل عندهم يستتر أمَّا المرأة فتتعرى، … وأن تعدد الزوجات ممنوع أما تعدد العشيقات فجائز … وأن أكل المخنوق جائز أما ذبح الأضحية فانتهاك لحق الحيوان … ” صــ 1282.
وأنا – وإن كنت لا أميل للتعميم ولا أَمَلُّ الدعوة إلى التفريق بين الشعوب والرؤوس السياسية والفكرية التي تتحكم فيها – لا أرى كلامه من حيث العموم بعيداً عن الواقع، فأزمة الفكر الغربيّ أزمة عميقة بعمق التناقضات الكثيرة في البيئة الحضارية والتاريخية لهذه البقعة من أرض الله، فبينما غاصت أوربا في العصور الوسطى في أوهام الثيوقراطية ووقعت بذلك أسيرة في جب الاستبداد الكنسي؛ رأيناها في العصر الحديث تنفلت من كل قيد وتذهب في العلمانية والإلحاد ونبذ الدين إلى آخر مدى، وما كادت في شطرها الغربيّ تتخذ من المذهب الفرديّ عقيدة ومنطلقا ومنهج حياة؛ حتى رأيناها في شطرها الشرقيّ تنثني بمرونة (الديالكتيك) إلى الاتجاه المضاد لتغرق في عبادة الجماعة التي يذوب فيها الفرد ويتلاشى كأنَّه موجة عابرة تفصح عن جبروت البحر ثم تختفي في ظلمات أحشائه.
ويستعرض الشيخ الحياة الاجتماعية للمجتمع الأمريكي كنموذج للتناقض الصارخ؛ فإذا به – وهو الشعب الذي يقدم نفسه على أن أكثر شعوب الأرض تمديناً – يغرق في خرافات إلى لبَّته، ولم لا والإدارة الامريكية تعتمد قراءة المستقبل من خلال نبوءات التوراة المبدلة، فلا غرابة إذاً أن تنتشر العبادات الغريبة البالغة حد الشطط، فهناك عبدة الشيطان، وهؤلاء “لهم مقر مجاور لمبنى الأمم المتحدة” صــ 1286 وهناك ملايين يعبدون الأهرام، وآخرون على مذاهب قديمة في التدين كالزرادشتية والمانوية والبوذية والهندوسية وغيرها، فإذا انضاف إلى هذا الخليط الكريه من العبادات الخرافية عنصرية بالغة حد الرعونة كان المنتج الاجتماعيّ غاية في القماءة والدمامة، هذا ما يحاول الشيخ إثباته في صفحات عدة من كتابه، وأحسبني متفقا معه إلا في ما قد يلوح من التعميم في بعض العبارات.
وكأنَّ الشيخ لا يرى في أمريكا مظهراً للتقدم والمدنية إلا ذلك التقدم التكنولوجي الذي يجعلها مجرد (ورشة) هائلة تخلو من معاني الإنسانية؛ لذلك تراه يدلف بعد بيان الخرافات التي تغرق فيها المجتمعات عندهم إلى نوع من الخرافة السياسية تتمثل في الولاء التام للكيان الصهيوني؛ ذلك الولاء الذي يسيطر على جميع زعمائهم؛ وكأنّ إسرائيل مصدر الإلهام السياسيّ لهم، كما أنَّ القرارات السياسية تبنى على تقارير جهاز الاستخبارات وعلى مراكز الأبحاث التي يهيمن عليها الرأسمال اليهودي؛ فكون الناتج السياسيّ تخريفاً ولكن على الأسلوب الدبلوماسي.
وينعطف الشيخ إلى خطورة التدخلات الأمريكية في الشئون الداخلية للدول، ويذكر من ذلك أمثلة في بلاد الحرمين، منها تدخل المدعو (ليبرمان) في المناهج التعليمية لبلاد الحرمين، ومنها تدخل مشاة البحرية الأمريكية في الشئون الداخلية إلى حدّ محاولة التدخل في عمل هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، والطلب الصريح من الوفد الأمريكي لوزير العدل السعودي بسن قوانين ضد ما أسموه بالإرهاب، أما تدخلها في شئون شعوب الأرض كلها فمعلوم ومشئوم، فمن المعلوم تاريخياً ” أن أمريكا حاصرت اقتصادياً أكثر من نصف دول العالم، وقتلت عشرين مليوناً من البشر في 47 دولة” صـــ 1298
وكغيره من الكتاب في الشأن الأمريكيّ يتنبأ الشيخ بقرب انهيار أمريكا؛ ويذكر لذلك أسباباً متعلقة بالتفسخ الاجتماعي والانحلال الأخلاق والتراجع في قيم العصر الحديث، لكنه – بعد أن شبه أمريكا بعاد في الجبروت والضلال لا يستبعد أن تتوفر الأسباب التي تجعل هلاكها قريبا؛ بنفس الطريقة التي أهلك الله بها عاد، فإذا بالجنة الخضراء تستحيل صحراء جرداء، ورغم أنني أتوقع أن يكون هلاكها بأن يجعل الله بأسهم بينهم؛ فتتمزق إلى ولايات متشظية؛ إلا أنني لا أستبعد كثيراً ما يتوقعه الشيخ وإن كنت لا أؤكده، فالأقرب إلى تصوري وأحسبه الأقرب إلى الواقع هو أن تتشظى هذه الولايات وتتقاتل، وهذا أحسبه حلاً لمعضلة الهيمنة الأمريكية، وأرى أنها مرشحة لذلك قريباً، وأرى أن من الواجب على المسلمين أن يسعوا قدر طاقتهم في تقريب هذا اليوم الذي سيشرق على البشرية بنهاية هذا الكابوس.
لكن الذي يستهويك بعد إحاطة الشيخ بالأفكار والأحداث وخلفياتها هو روح التفاؤل والأمل؛ فانظر كيف يرى الواقع وكيف يفسره: “ابتلى الله أمريكا بما صنعته يدها الآثمة، فمنظمة الجات أفشلت أهدافها، حتى لا تكاد تجد اليوم بضاعة أمريكية داخل أمريكا، والعولمة الأمريكية انقلبت عليها، وتظاهر الأمريكيون أنفسهم ضد العولمة في نيويورك وساتل وغيرها، كما أن مشروع “الشرق الاوسط الكبير” أخفق، وهذا ما نتوقعه للمشروع الأمريكي الحاليّ المسمى “التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب” و”الشرق الأوسط الجديد” ومشروع ترامب المسمى “صفقة القرن”، والله متم نوره ولو كره الكافرون” صــ 1318
وبعد تطوافة واسعة النطاق كشف فيها الشيخ عن التناقضات الصارخة في أمريكا فأجاد في الاستيعاب والتحليل؛ ختم بهذه الكلمات التي يعتبر نفسه مسئولاً عنها: “ومن استغرب قولنا أنَّ اليمن أرقى من أمريكا فليقرأ ما كتبه الباحثون الأمريكيون أنفسهم عن الحضارات القديمة، وكيف أنها تجمع على استنكار الفاحشة الشاذة (اللواط) ففي كتاب (الموتى) الذي كتبه المصريون القدامى يقول المصري القديم أثناء محاكمته في الآخرة: “لم أرتكب فعل اللواط” ومع ذلك تجد المحكمة العليا في أمريكا تبيحه، فهم إذن أكثر انحطاطاً من المصريين القدامى الذين كانوا وثنيين، بل إنَّ القرود التي رجمت القردة الزانية في الجاهلية أرقى من أولئك المنحطين وإن كانوا بشرا” صـــ 1329
وتكلم الشيخ عن فلاسفة امريكا المعاصرين فأفاض وأجاد، فتكلم عن البراجماتيين وكشف مكامنهم، وتكلم عن فوكوياما وأحسن الظن به بسبب معاداته في الأخير للنظام الأمريكي وانتقاده له؛ ودعا المسلمين المقيمين بأمريكا لمناظرته؛ فكأنه يرجو له خيراً، ولكنه أفاض في حديثه عن نعوم تشومسكي، الذي برغم كونه ملحداً بدا صاحب مواقف عظيمة وأقوال عادلة؛ فهو يعادي أمريكا وإسرائيل، ويرى أن زوالهما وشيك بسبب عدوانهما، ويسمي حروب أمريكا غزواً، وهو الذي قام بتعديل مقولة أرسطو: “الإنسان مدنيّ بطبعه” إلى: “الإنسان حر بطبعه” وهي عبارة رائعة تداعب خيال الثوريين، وكأنّ الشيخ أعجب بالتعديل هذا فاقترح أن تجرى مقابلة تظهر عظمة الإسلام الذي شرع الحرية المنضبطة. (يتبع). (* ).