(ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (الجاثية 18) بهذه الآية الكريمة افتتح الشيخ الدكتور سفر الحوالي كتابه الذي أحدث في عمق الساحة الإسلامية دوياً هائلاً، والذي انتهى منه في أبريل الماضي، ونشره على الشبكة العنكبوتية منذ أسابيع قليلة؛ فهل كان الشيخ يرمي بِعَجُز هذه الآية آل سعود الذين صب عليهم النقد اللاذع صباً في فصول من كتابه تعتبر هي الأهم والأكثر إثارة؟ أم إنَّه أراد أن يجعل من صدرها شعاراً لمرحلة قادمة من حياة الأمَّة الإسلامية، ستكون فيها مسئولة عن البشرية، بعد سقوط الحضارة المعاصرة و(موت الغرب)؟
على ما يبدو أن الشيخ وهو يسطر هذا السفر الضخم كان ينظر بعين إلى الغرب وبالأخرى إلى واقع الدول العربية ومنها بلاد الحرمين؛ لذلك جاء عنوان الكتاب معبراً عن هذه النظرة المزدوجة (المسلمون والحضارة الغربية) وهو يذكرني في كثير من همومه المزدوجة هذه بكتاب على عزت بيغوفيتش (الإسلام بين الشرق والغرب) فالمنطلقات والغايات في الكتابين واحدة، وإن وقع التباين في الاهتمامات والمضامين وطرائق التناول، ومن اللحظة الأولى تمضي النظرتان في خطين متوازيين، ولاسيما مقدمة الكتاب التي لخصت موقف الشيخ من الغرب المحاربين ومن العُرْب المتآمرين المفسدين.
ويطرح الشيخ في المقدمة التي قاربت السبعين صفحة آراء جريئة تعبر عن هاتين النظرتين، فبعد أن أقر للغرب بالسبق في ميادين لم تقتصر على الصناعة حتى جاوزتها إلى الإدارة والسياسة وحقوق الإنسان؛ صرح بأنّ الغرب يضمر العداء ويمارس الحرب على الإسلام والمسلمين، وضرب لذلك أمثلة منها الانحياز الدائم مع المشروع الصهيونيّ، والتآمر ضد تركيا، وحشد قوى الكون كله لضرب المنطقة؛ بذريعة الحرب على ما أسموه بالإرهاب، ثم إذ به مباشرة يعرج على الوضع السعوديّ ويوجه للحكام نقداً لاذعاً؛ لكونهم بدلاً من أن يستثمروا القوة المادية لتمكين أمتهم ينفقون مائتي مليار ريال سعوديّ على افتتاح دور السينما!
والرجل الذي وضع رسالته للدكتوراه عن العلمانية؛ ليتخصص بها كأستاذ للعقيدة في مقاومة المذاهب المعاصرة؛ يكشف للقارئ عن موجة من العلمانية اجتاحت (بلاد الحرمين!) أعتى من العلمانية اللادينية، سماها العلمانية المحاربة للدين، ولا ريب أنَّه توصيف يضع آل سعود برمتهم في دائرة غاية في الصعوبة، من جهة الحكم الشرعيِّ الذي ينسحب على هوية ملكهم الذي يمارسون من خلاله السلطان في أطهر بقاع الأرض، ولا ريب كذلك أنَّ الرجل يعي ما يقول جيداً؛ وقد عُرف بحزمه وشدته على الفكر الإرجائيّ المعاصر، ولاسيما في رسالته للماجستير: (ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلالميّ).
إنَّها بداية مزلزلة، تستحق أن يبادر الشيخ إلى إبداء استعداده لتحمل ما سيترتب على عمله من تبعات، فها هو ينتدب نفسه – ومن يرى في نفسه الهمَّة – إلى أمور ستة: الصدع بالحق، والنصح للخلق، والصبر على الأذى، وبيع النفس لله، واتباع الرسول القدوة، ولزوم العدل والإنصاف، ثم تعلو نبرة التضحية في قوله: “والرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه أمرنا إذا خُيِّر أحدنا بين دينه وضرب عنقه أن يقدم عنقه”.
وعلى طريقته التي اتبعها من قبل في كثير من محاضراته وكتبه يكشف عن تناقضات الغرب وتباين مواقفهم والاختلاف الحادّ بين ما يقولون ويعلنون وبين ما يفعلون ويمارسون، فالذين يتغنون بالديمقراطية هم الذين سعدوا بالانقلاب الفاشل على تركيا ودعموه، والذين يرفعون شعار حقوق الإنسان هم الذين يسحقون الشعوب المسلمة، ثم يصيح: “واسأل عقلك كيف تعترف الدولة الديمقراطية الحرة أمريكا بانقلاب السيسي تدبر انقلابا مماثلاً في تركيا الديمقراطية”
وبعد جولة نعا فيها على الليبراليين العرب وإعلامهم أنهم دخلوا جحر الضب الذي دخله الغرب؛ بترويجهم لما أطلق عليه الأفكار الاستهلاكية، وقف وقفة آسفة على جرأة هؤلاء وحماقتهم فقال: “وقد قرأت قول من قال: مرحباً بالديمقراطية ولو جاءتنا على ظهر دبابة أمريكية، وأنا أقول: مرحباً بإقامة الدين ولو أقيم على رقابنا ودمائنا وأشلائنا”.
وبأقلام مفكرين من بني جلدتهم يسدد الشيخ إلى الغرب ضربات متوالية، فكم من مفكر غربيّ انتقد الحضارة الغربية وما فيها من زيف، وكم من إحصائية موثقة تنقض قيم هذه الحضارة عروة عروة، وفي ختام الجولة ينثني الشيخ على حلفاء بني سلول من المداخلة وحزب النور فيكشف عن رضا الغرب عنهم، ويكشف عن تواصي الغرب بالإعلاء من شأن هذا الفكر المنحرف الموالي للسلاطين.
ومن نيكسون إلى بوش إلى ترامب إلى غيرهم من زعماء أمريكا والغرب ينساب قلم الشيخ ويصول ويجول؛ ليكشف عن المقاصد الخفية وراء غاراتهم على المنطقة، تلك المقاصد التي ظهرت في فلتات تصريحاتهم، من حرب على الإسلام (الإرهابي!)، ومن تأمين لحدود إسرائيل، ومن حملة صليبية مقدسة، وغير ذلك مما يتوارى خلف أستار الشعارات البراقة، ثم يتبع ذلك بجولات في تاريخ الفكر الغربيّ وأصوله بغرض الكشف عن الخلفية الثقافية التي أنتجت هذا التناقض الفاحش، ثمّ كعادته ينثني على الوضع العربيّ وبخاصة السعوديّ فيقول ناقلاً ومقرراً بسكوته لصحة ما نقل: “ويقول الغربيون: في حين أن الحاكم في إسرائيل الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط ينتخبه الشعب ولا يتجاوز مدته، تجد الحاكم الوهابيّ في جزيرة العرب مستبد له سلطة إلهية مطلقة، يحكم بموجبها حتى يموت”.
وعلى هذا النحو يمضي الشيخ في مقدمته الطويلة على خطين متوازيين، يطأ على الخط الأول مواقف الغرب المتناقضة، ويطأ على الخط الثاني مواقف آل سعود تجاه قضايا الأمة، ولا يشك متابع في أن الشيخ عمد إلى هذا في مقدمته للكتاب؛ ليمهد لمنهجية مستمرة، لكنها قد تختلف بعد ذلك في أسلوب العرض، حيث يخصص فصول لهذا وفصول لذاك، فيمضي على الخطين دون أن يكون التجاور بينهما شديداً. (يتبع) (* ).