“لا تعارض في الإسلام بين معرفة سنن الله في المجتمعات وبين التقاط الحكمة من كل أحد”.
هذا ما قرره الشيخ سفر في مستهل الفصل الذي عقده للفكر الاجتماعي؛ لينطلق بعده مباشرة إلى تناول الفكر الاجتماعي المعاصر بالدراسة النقدية في ضوء حقائق الإسلام، ويبدأ دراسته بتخطئة الفكر الغربيّ في تقسيمه للمجتمعات إلى بدائية ومتحضرة، ويعزو إلى بعض المذاهب الغربية المعاصرة أنّها سبقته إلى هذه التخطئة، ثم يسقط مذهبه هذا على الحالة الإسلامية؛ حيث كانت الأمة الإسلامية في عهدها الأول أرقى المجتمعات على الإطلاق، مع افتقادها للتقنيات المعاصرة التي يقاس بها التمدين.
وطفق بعد ذلك يكشف عن بعض سنن الله في المجتمعات، والتي منها أنَّ الله “يدمر المجتمعات الظالمة ولو كانت مسلمة، ويبقى المجتمعات العادلة ولو كانت كافرة” صـــ 1135 وبعد جولة طويلة مع جملة عظيمة من السنن يقرر الشيخ أنَّه: “بمعرفة المسلمين لهذه السنن الثابتة وجهل الغربيين بها يظل المسلمون دائماً أكثر تقدماً في عدم الاجتماع، وأعلى درجة مهما قلَّتْ تشقيقاتهم لهذا العلم” صـ 1142 ثم طفق ينتقد (نيتشة) في قوله بموت الإله و(ميشيل فوكو) في قوله بموت الإنسان، و(دوركايم) في قوله بالعقل الجمعي، ثم (ماكس فيبر) في تجاهله للإسلام في كتابه (سيسيولوجيا الأديان).
وليس الأمر كما يدعي المؤرخ أرنولد توينبي أنَّ أخطر أمراض المجتمعات الغربية الخمر والمخدرات والتدخين، كلا؛ فما هذه في الحقيقة إلا أعراضاً للمرض الأكبر وهو الكفر بالله الواحد القهار، ومن أكبر أمراض الغرب على وجه العموم: الجشع والانانية والغش، ومنها أنّ القوة الغاشمة هي التي تحسم القضايا وليس ما يسمونه بالقانون الدولي، ومن الأمراض الاجتماعية الكبرى الرفع من شأن الملهيات حتى” أصبح اعتزال اللعب حدثا تاريخياً” صــ 1160.
وإذا كان الإعلام ظاهرة اجتماعية قبل كونها سياسية فإنَّ الشيخ لم يهملها، فتكلم عن أمانة الإعلام وما يجب أن يتحلى به الإعلاميّ من أخلاق، وعرج في أثناء الحديث على إعلام السعودية؛ قائلا: “وقد كان في بلاد الحرمين قناتان، إحداهما: القناة الأولى، والأخرى: القناة الثانية، وهما القناتان اللتان سمتهما الصحافة: غصب1 وغصب2 ، أمّضا الىن فقد كثرت الغصوب، وأرغموا الإدارات الحكومية على مشاهدة قناة العربية ومنع قناة الجزيرة، التي قالت عنها إحدى الصحف إنها جزيرة الحقد … وهذا ما دفعني لمشاهدتها … والمهم أن الدنيا في واد والإعلام السعودي في واد آخر” صـــ 1178
ومن الجيد ألا يهمل الشيخ ولا يغفل عن الرابط بين الاقتصاد والاجتماع، فيتعرض أثناء حديثه عن الاجتماع للاقتصاد وأثره، ويعرج على النفط ويحذر من قرب نفاده مع قرب استغناء العالم المتدمدين عنه؛ مما سيكون سببا في تفاقم الأزمات الاجتماعية في الخليج عامة والسعودية خاصة، كما أنه في سياق حديثه هذا تكلم عن الدين والمجتمع، وعن أثر التوحيد في المجتمعات، كما تحدث عن وحدة الأمة، ونعى تقسيمها إلى (حظائر) تسمى دولا، ثم حذر المجتمعات الإسلامية من الشرك بأنواعه، فقال: “ومن الشرك اتباع العلماء والأمراء في تحليل الحرام وتحريم الحلال” صـــ 193
وفي حديثه عن المسؤولية الاجتماعية قرر أنّ على الدولة مسئولية كبيرة، لكن في المقابل لم يعف الأسرة من المسئولية، وتمثل بحديث: “كلكم راع …” والحقّ أنَّ هذا القول فيه إنصاف كبير، لكن مع ذلك فإنَّ دور الدولة – من وجهة نظري – تحتاج غلى بيان كبير، فبرغم أنّ الكتاب في ثناياه اشتمل على كثير مما يحمله للدولة، إلا انني كنت اتمنى أن يسهب في بيان دور الدولة في حماية المجتمع من الرذيلة، فهي إحدى وظائفها الرئيسية، وبما أنه خصص هذا الفصل الطويل للحديث عن الفكر الاجتماعي كان لابد من بيان هذا الأمر الخطير.
بهذه المناسبة أود أن أضيف إلى ما تفضل به الشيخ في كتابه بعد الأفكار التي أحسبها تدور في الفلك الذي يدور فيه هذا الفصل من كتابه الواسع الكبير، وسوف انطلق من بعض آيات سورة النور التي نزلت لتنوير المجتمع المسلم بالفضيلة، وسوف أحاول جاهداً ربط ما فيها بالواقع الذي نعيشه؛ فلقد تغيرت في حياتنا مفاهيم كثيرة لأسباب عديدة، فنحن لم ننجح في تنزيل خطاب القرآن على واقع حياتنا بما يتناسب مع درجة الانحراف عن منهج الله تعالى في زماننا هذا، رغم التشابه الشديد بين واقعنا والواقع الجاهليّ الذي نزل القرآن لدفعه وإماطته، فإذا كانت الجاهلية الأولى قد تولت – بما شاع فيها من أعراف وتقاليد و وذاع فيها من أحكام وقوانين – قد تولت حماية الرذيلة واضطهاد الفضيلة؛ فإنَّ المجتمعات المعاصرة – لذات الأسباب وبذات الأدوات – انتهجت ذات المنهج وسلكت ذات السبيل، وإن بصور مختلفة، لا تقل شدة وضراوة بل تزيد.
ومن ثمَّ فإنَّ تلقينا للآيات يجب أن يكون بما يناسب الواقع الذي نزلت لمواجهته، ولمواجهة كل ما يستجد على طريقته ووفق سننه، لا بمثل ما عالج به المتأخرون واقعهم الذي لم يكن يشبه ذلك الواقع إلا في ممارسات فردية ينتسب بها المرء في سلوكه الخاص إلى الجاهلية، دون أن ينزلق المجتمع بهيئته العامَّة في وحلها أو يغرق في مستنقعها؛ ولنضرب لذلك مثالاً بقول الله تعالى: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النور 33) فهذه الآية ورد في سبب نزولها ما قد يبدو منه أنَّها عالجت واقعة فردية وسلوكاً شخصياً: فقد روى مسلم عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: ” كَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ يَقُولُ لِجَارِيَةٍ لَهُ: اذْهَبِي فَابْغينَا شَيْئًا، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } النور: 33، كما روى أبو داود عن جابر أيضاً: “جَاءَتْ مِسْكِينَةٌ لِبَعْضِ الْأَنْصَارِ، فَقَالَتْ: إِنَّ سَيِّدِي يُكْرِهُنِي عَلَى الْبِغَاءِ فَنَزَلَ فِي ذَلِكَ”: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} النور: 33.
لكن الواقع الذي كان هو بخلاف ذلك التصور الذي تسلل إلينا ونحن نقرأ سبب النزول هذا، الواقع هو أنَّ الجاهلية الأولى كانت تمارس الإكراه على الفاحشة، فلم يكن صنيع ابن سلول حالة فردية ولا سلوكاً شخصياً، وإنَّما كان عادة درج عليها المجتمع ووفرت لها قوانين وأعراف الجاهلية الحماية الكافية، تماما مثلما تفعل الجاهلية الغربية التي تسود بفتنتها العالم الآن، وإن بأساليب مختلفة، فما يمارسه النظام العالميّ الآن – وأنظمتنا جزء لا يتجزأ منه – هو إكراه البشرية كلها على البغاء وعلى استباحة الفحشاء، حتى صار من يسلم من الخلق مجرد استثناء.
فإذا جاز لمن عايش واقعاً سادت فيه شريعة الإسلام حتى انزوت الرذيلة في جحور مظلمة وطوردت في زوايا معتمة، إذا جاز لهم أن يحصروا دلالات الآيات في وقائع فردية وسلوكيات شخصية، لم يجز لنا نحن وقد عايشنا زماناً قد استدار كهيئته يوم أن كان القرآن ينزل ليدهس أعراف الجاهلية ويعفي على آثارها الكئيبة.
وعلى هذا النحو يجب أن نقوم بتنزيل الآيات الراعية للفضيلة والدافعة للرذيلة والحامية للحمى الذي لا يجوز أن ينتهك أو يستباح، وإنَّني – من هذا المنطلق – لأنظر إلى آية من هذه الآيات نظرة لا تختلف عن نظرة المفسرين الأوائل لها وإن اتسعت لتشمل كثيراً مما لا تقصر الآية عن شموله ولا تضيق عن استيعابه، وهي قول الله تعالى: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (النور 32)، فغالب المفسرين على أنَّ الخطابَ فيها للأولياءِ والسَّاداتِ(3 )، بأن يزوجوا من لا زوج له من الرجال والنساء والأحرار والعبيد(4 )، ولا يملك أحد أن ينازع في أن هذا الأمر للأولياء والسادات كما قال المفسرون رحمهم الله، ولكن لا يملك أحد كذلك أن ينازع في أنَّ الأمر ليس مقصوراً عليهم ولا محصوراً فيهم؛ إذ ليس في عبارات المفسرين ما يفيد القصر والحصر، وليس في منطوق الآية ولا سياقها ما يمكن أن نبرر به هذا القصر والحصر، فالآية خطاب للمسلمين، والمسلمون ليسوا غنماً تساق ولا شذاذاً في الآفاق، ولكنَّهم أمَّة وكيان ومجتمع ودولة ومؤسسات ونظام، والأصل أن الخطاب إذا كان عامَّاً شمل شمولاً لا يستثني أيَّ نوع كما لا يستثني أيّ فرد، ومعالجة الأمر على هذا النحو أفضل وأقوم من أن نلجأ إلى قاعدة: “ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب” وإن كان اللجوء إليها في الأمر الذي نعالجه كاف وواف.
فيجب على السادة تجاه من تحت أيديهم من العبيد والإماء، وعلى الأولياء تجاه من لهم عليه ولاية، وعلى المسئولين – بما يختصون به من صلاحيات – تجاه الرعية، وعلى الدولة – بما تملكه من اقتصاد عام ومؤسسات راعية للعدالة الاجتماعية – تجاه الشعب، وعلى المجتمع – بما يستقر فيه من عادات وتقاليد وأعراف تتفق مع روح الشريعة ومقاصدها ولا تخالف أحكامها – تجاه كل نسمة فيه؛ يجب على هؤلاء جميعاً أن تتجه تصرفاتهم وفعالهم وتدابيرهم إلى تيسير أمر النكاح وتدبير شأن الزواج، كل بما هو ميسر له ومؤهل للقيام به(5 ).
الهامش
(1) صحيح مسلم (4/ 2320)، وراجع: أسباب النزول تحقيق الحميدان (ص: 325) – وتفسير الطبري (19/ 174)
(2) سنن أبي داود (2/ 294)
(3) راجع: تفسير القاسمي (7/ 380) – وفتح القدير للشوكاني (4/ 33) – وتفسير البيضاوي (4/ 105)
(4) راجع: تفسير ابن أبي حاتم (8/ 2581) – تفسير الطبري (19/ 165) – تفسير أبي السعود (6/ 171)