في التمهيد الذي طال كطول المقدمة أو أكثر، وبعد جولة في أصول الحضارات كثر فيها التقريع والتبكيت للغرب بسبب تناقضاته الفكرية والعملية، طرح الشيخ هذا السؤال الذي تصدر بخط سميك الصفحة الخامسة والتسعين: “هل يشن الغرب علينا حملة صليبية أخرى ؟” لكنه لا يتعجل الإجابة عليه حتى يطوف – على عادته – تطوافة واسعة النطاق، زمانا ومكانا ونوعا وتخصصا، فمن (إيزنهاور) الذي صرح بأن حربه على الشيوعية حرب صليبية إلى (بوش الابن) الذي صرح بأن حربه على العراق حرب صليبية، ولا تنطلي على الشيخ فرية: “فلتة لسان” فيثبت أنَّه كررها بعد ذلك مرات في مناسبات عديدة، ومن السياسيين إلى الدينيين، حيث (بندكت) بابا الفاتيكان واتهامه للإسلام بأنَّه دين إرهاب، ومن انجلترا إلى أختها في البغي أمريكا وتوريث الاستعمار.
وسوف يبهرك الشيخ بيقظته ووعيه؛ عندما تراه لم ينخدع ككثير من الإسلاميين بأوباما، ويقرر بالإحصائيات أنَّه لا يقل عن سابقه بوش الابن عداوة وهمجية؛ فهو الذي نقض عهده بإنهاء معتقل جوانتانامو وهو الذي استحدث مصطلح “الإرهاب المحتمل” وهو الذي هاجم بغزواته سبع دول وتضاعفت إلى ثمانية أضعاف في عهده حملات الطائرات بدون طيار، وهو الذي آوى فتح الله جولن، وهو الذي كثر في عهده حملات التسفير للمختطفين إلى سجون سرية، وإلى دول تبيح وتمارس التعذيب بالوكالة، وفي عهده اشتدت عداوة أمريكا لتركيا وللعدالة والتنمية.
سصش2ضص2ضض1ذثم يستطرد متوسعاً في سرد أقوال سياسيين من أمثال (بوش الأب) ومفكرين من أمثال (ماكس فيبر) و(موترو) ودينيين من أمثال (بات روبتسون) و(جيري فالويل)، ومواقف دول مثل سويسرا التي ليس فيها سوى ثلاثة مساجد، وفرنسا التي حظرت الحجاب، كل هؤلاء يثبت الشيخ أنهم وأمثالهم اتهموا الإسلام بالإرهاب واتخذوا من ذلك ذريعة للحرب عليه، ولا ينس الشيخ أن يسوق من أقوال المعتدلين منهم من أمثال (نعوم تشومسكي) ما يفحمهم به.
وبعد أن أطال الشيخ في سرد وقائع تاريخية تثبت أن الغرب وعلى رأسه أمريكا هم من يمارسون الإرهاب، وأنَّ أمريكا – بحسب وصف نعوم تشومسكي – هي “دولة الإرهاب المنفلتة المتوحشة” وبعد أن اطمأن بهذه التطوافات المتوسعة أنَّه قد أجاب على السؤال السابق يتقدم في لفتة مفاجئة بطرح سؤال آخر فيقول في صفحة 114 “لماذا يعادي الغرب وأذنابه تركيا؟” وينقل عن إنجيلا ميركل قولها: “الأتراك مسلمون وأوربا مسيحية؛ فكيف يطمح الأتراك في الانضمام للاتحاد الأوربي؛ فهل تستطيع بناء كنيسة في اسطنبول؟” وينطلق من هذا الموقف إلى منصته التي يصوب منها سهام النقد إلى الليبراليين العرب، فيضعهم أمام الحقائق، فها هي تركيا بلد الحريات لا يرضى عنها المجتمع الدولي لكونها مسلمة، فما أنتم قائلون أيها الليبراليين العرب، أم إنكم كما قال (فؤاد زكريا) أحد منظريكم: “ليس لليبراليين مشروع، مشروعهم هو هدم مشروع الإسلاميين”!!
وقبل أن يختم التمهيد لكتابه لم ينس الشيخ أنَّ الغرب لا يزال فيه مؤسسات وشخصيات تعدل في قولها ومواقفها، ويقدم بذلك نموذجاً للعدل في تقييم الرجال والمواقف؛ انطلاقاً من المنهج القرآنيّ، وتأسيا بقول الله تعالى: (ليسوا سواء).
لكنه في الفصل التالي للمقدمة، والذي عقده للحديث عن الحضارة الإسلامية ومميزاتها، هدأت نبرته وخفتت حدته؛ كأنَّها استرواحة في ظلال الإسلام وحضارته قبل أن يشن غاراته العاتية ويعلن حربه الضروس، فهذا حديث عن القرآن وما فيه من أصول قامت عليها الحضارة، وهذا حديث عن السنة وما حوته من قيم، وهذه جولة في التاريخ الإسلاميّ ومآثر المسلمين الأخلاقية، إلا أنَّ هذا لم ينسه غايته؛ فتراه يسقط بين الفينة والفينة إسقاطات جارحة برغم هدوئها، مثل قوله: “كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحذر من المنافقين الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، ومن الكفرة عبيد الدنيا” ولعلك توافقني الرأي في أنَّ القارئ إذا جمع كلام الشيخ وضم بعضه إلى بعض وردَّ آخره على أوله سيعلم من الذين أرادهم بوصفه: “المنافقين الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم .. والكفرة عبيد الدنيا”.
أما مميزات الحضارة الإسلامية وخصائصها، فمنها أنها حضارة قامت على الدليل والبرهان، وأنها توحيدية قامت على التوحيد ونبذ الشرك، وأن شريعتها ربانية، وأنها ذات قيم ومعايير خاصة بها، وأنها حضارة إنسانية عامة، وأنها حضارة عدل مطلق، وأنها حضارة اختيار وظاهر لا تنقب في السرائر ولا تبلو الضمائر وإنما تاخذ الناس بالبادي الظاهر، وأنها حضارة عفو وإحسان، وأنها حضارة المساواة، وأنها حضارة حق يجب قوله ويحرم كتمانه، وأنها حضارة حب وتقدير، وأنها حضارة طيبات لا تعرف الخبائث، وأنها حضارة أخلاق، وأنها حضارة وفاء والتزام، إنها حضارة اجتماع وألفة، إنها حضارة عمل، وإنها حضارة حقوق وآداب، وأنها هي الأسبق إلى كل علم ومعرفة ومصلحة، وأنها حضارة أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، إنها حضارة جهاد، حضارة مؤمنة، حضارة تنوع، الوحيدة التي للمخطيء فيها أجر وللمصيب أجران، حضارة تراعي سُنن الله في المجتمعات وتجتنب الأدواء الاجتماعية، حضارة يُسر، حضارة همة، حضارة بناء للأجيال، حضارة شمول وكمال وسعة، حضارة ضمير ومراقبة داخلية.
وقد تتفق أو تختلف معي إذا قلت إنَّ الشيخ توسع جدا في ذِكر مميزات الحضارة الإسلامية؛ حتى أدخل فيها كثيراً من خصائص الشريعة نفسها، لكنك غالباً ستوافقني الرأي إذا إطلعت على سرد الشيخ أنَّه أجاد وأحسن في سوق النصوص وتصريفها، فكأنّ الآيات تُسبح مع مداد قلمه رافعة أشرعتها ذاهبة وآيبة، تؤيد قوله وتدعم مذهبه، وكأن المقارنات التي عرضها وهي ترفع وتخفض أمواج بحر هادر.
وبرغم أن للموضوع رونقه الآخاذ ترى الشيخ لا يصرفه المثال عن الواقع، فينثني بين الفينة والفينة على واقع العرب ولاسيما الخليجيين والسعوديين منهم خاصة؛ مبيناً وكاشفاً وناعياً، مثل قوله في آواخر صفحة 199 وأوائل صفحة 200 : “فالأمريكان اليوم يريدون أن تكون دول الخليج لهم كالإسرائيليات للفراعنة، وإذا نفد النفط انقلبوا علي أهله إلا أن يرضوا باسترقاق العم سام لهم ووضعهم حيث شاء”(* ).