لم أتعرض قط لقوم ينتسبون للدعوة وللعمل الإسلاميّ أبغض إليّ من أولئك المدخولين الذين يُسَمَّون بالمداخلة، وقريب منهم أتباع (الجامية)؛ أخت (المدخلية) في الرضاع والاستبضاع، في الرضاع من ثدي العمالة، وفي الاستبضاع من فكر باباوات الكنيسة في العصور الوسطى، الذين كانوا يلقنون الجمهور البسطاء أن الخروج على الملوك خروج على ترتيب الرب، وبين ذيولهما تعلقت وتأرجحت الدمية المسماة ب(الرسلانية)، التي أُسِّست على عين المخابرات وأمن الدولة؛ لا لشيء إلا لشتم ولطم كل غاد ورائح من أهل الدعوة والعلم والتعليم.
وقد تخالفني فيكون بغضك أشدّ لأقوام هنا وهناك؛ حملوا نفس (الفكر!) وارتووا منه حتى الثمالة، لكنهم لم يتوقحوا مثل أولئك، حتى إذا جَدَّ الجدُّ سقطوا في جُبِّ الفتنة والعمالة؛ ففوجئ الناس وترددوا بين حسرة وندامة، ولست بمعترض عليك في هذا؛ لأنني من قبل كنت لا أنسبهم في الحقيقة إلا إلى هذه المدرسة النَّكدة، ولم تكن أنت مثلي في الاطلاع على أحوال الكثيرين منهم؛ فلا تثريب على أحد منَّا في التقديم والتأخير بين منازل هؤلاء المناكيد في دركات الخذلان والضلال البعيد.
كل هؤلاء وغيرهم يطلق عليهم شيخنا – حفظه الله وثبته ونجَّاه – مرجئة العصر، وكأنَّهم يوم أن هاجوا عليه فانتقدوا كتابه (ظاهرة الأرجاء) كانوا يسمعون حثيث السهام وصرير الأقلام.
ففي صفحات من كتابه تلت السبعين بعد المائة الثالثة تحدث عن بدعة الإرجاء، ولم يلبث إلا قليلاً حتى رأيناه ينقض على غريمه الذي كادَ له على مدى عقود شديدة التقلب والتعقيد، والذي وشاه ولا يزال يشي به، منذ موقفه المشرف في اعتراضه على الغزو الأمريكي للجزيرة العربية في تسعينيات القرن المنصرم تحت ستار الاستعانة بالقوات الدولية، إلى عقدنا هذا، الثاني من سلسلة العقود السوداء في مطلع الألفية الثالثة، حيث أثار حفيظتهم وحفيظة أسيادهم بالإمساك عن المداهنة للطغاة والمبايعة للمستبدين، رأيناه ينقض على أولئك الغلاة في غرام الطغاة، الذين سماهم – تأدباً واحتشاماً – (مرجئة العصر) ويستنكر عليهم أنَّهم يطلقون على كل من حكمهم (ولي أمر) إلى درجة أنّ بعض أذنابهم في العراق – وإنَّ لهم في كل أفق أذناباً – اعتبروا (بول بريمر) المغتصب (ولي أمر!)، ويرفض الشيخ رفضاً قاطعا قياس حكام العصر على الحجاج، حتى إنَّه ليسهب على مدى صفحات في بيان فضائل الحجاج وجهاده، لكنك تشعر بأنَّ حرصه على تبرئة الحجاج من المشابهة لطغاة العصر ليس أشد من حرصة على تعرية هؤلاء الطغاة من كل ما يحاول هؤلاء الدجالون ستر عوراتهم به.
غير أنَّ الشيخ لا يُنهي حملته هذه حتى ينثني إلى الطواغيت المعاصرين ناعياً جهلهم وانهزامهم وتبعيتهم تارة، وفاضحاً عمالتهم وتآمرهم تارة أخرى، فيقول – مثلاً – في صفحة 376 : “والطواغيت المعاصرون يظنون أنَّ أمريكا على كل شيء قدير، ويعتقدون أنَّ تقلب الذين كفروا في البلاد أمر حتميّ دائم لا حيلة فيه، وأنَّ الفكر والحضارة والتقدم هي فيما جاء به الغرب وحده، وما عداه ماض يجب تركه والتخلي عنه” ويقول في الصفحة التي تليها: “وليس من والى أعداء الله وحالفهم هو عبد الله بن أبيّ وسائر المنافقين الأولين فقط، بل كل من والى اليهود والنصارى إلى يوم القيامة هو كذلك أيضاً، وقد قال بدر شاكر السياب عن زعماء عصره: قد صافحت أكفهم كف أبي لهب”، وفي صرخة كأنها التنبيه والتمهيد لما سيأتي بعد من حملته على آل سعود: “وهؤلاء الحكام يجب الإنكار عليهم، ولا تجوز طاعتهم وإن صلى أحدهم وصام وحج وزعم أنَّه مسلم”.
هذا هو – في نظري – أهم ما تحدث عنه الشيخ، في السياق الطويل الذي أوجز فيه التاريخ العقدي للأمَّة الإسلامية، والذي بدأ مع نهاية المائة الثالثة من كتابه واستمر حتى قارب نهاية المائة الرابعة، وفي البداية تساءلت: لماذا بدأ الشيخ حديثه عن التاريخ العقدي للأمة الإسلامية بالحديث عن الماسونية وكشف سوءاتها وتناقضاتها، لكن سرعان ما أدركت أنَّ الرجل لا يصنف كتاباً في تاريخ الفرق والمذاهب، وإنَّما يكتب في معالجة الواقع؛ لذلك فهو يعرج على دين (القوم!) قبل أن يتحدث عن دين الله وعقيدة المسلمين، فالماسونية – كما يذكر الشيخ – استقطبت كثيرا من رواد الفكر العربي والإسلامي وكثيرا من الزعماء، ومن ثم وجب التنويه على ذلك قبل الدخول إلى تاريخ العقيدة الإسلامية او التاريخ العقدي للأمة الإسلامية.
موجز التاريخ العقدي للأمة الإسلامية خطير ومثير، ففي عهد النبيّ وخلفائه الراشدين كانت الأمَّة على المحجة البيضاء في عقيدتها وشريعتها؛ كيف لا وصحابة النبيّ صلى الله عليه وسلم – كما قال ابن مسعود – هم : “قوم اختارهم الله لصحبة نبيه”، لكن بدأ ظهور الفرق في أواخر عهد سيدنا علي رضى الله عنه، حيث أول بزوغ للزندقة في ثوب السبئية، وأول ظهور للخوارج في صورة الحرورية، ثم توالت المحن وتتابعت الفتن فنبتت في التربة العقدية أفكار غريبة عن الإسلام؛ فقدرية وجهمية ومرجئة ورافضة، كلها – وإن كانت داخلة في الجملة في دائرة اهل القبلة – خارجة عن منهج أهل السنة، ثم بعد ظهور حركة الترجمة انساب الفكر الفلسفيِ الذي سمح بترجمته النصارى ليدمروا به عقيدة المسلمين، فظهر أمثال الكندي والفارابي، ثم ابتليت الأمة بالحركات الباطنية كالقرامطة والعبيديين الذين حكموا مصر ونسبوا أنفسهم كذبا لفاطمة وسموا بالفاطميين كذبا وتدليسا، وهم الذين قال عنهم الغزاليَ : “ظاهرهم الرفض وباطنهم الكفر المحض”، لكن برغم ذلك وقف العلماء الربانيون لهم بالمرصاد، وكان لبعض الخلفاء والأمراء مواقف حاسمة مشرقة مثل المهدي الذي أشاد ابن تيمية بمحاربته للبدع والأهواء وقضائه على كثير منها، ومثل المتوكل الذي رفع المحنة، وخالد بن عبد الله القسريّ، وغيرهم.
وإذا كان الصليبيون قد تكسرت موجاتهم الواحدة تلو الأخرى على أيدي المسلمين حتى جاء صلاح الدين الأيوبيّ فأحبط خطتهم وردهم على أعقابهم خائبين؛ فإنَّهم أدركوا يومها أنْ لا سبيل على كسر هذه الأمة إلا بسلخها عن عقيدتها التي هي مكمن قوتها، لذلك ظهرت حملات التغريب التي برغم لم تجن منها الأمة الإسلامية سوى الثمار الخبيثة للغزو الفكريّ الذي استهدف عقيدة الأمة وشريعتها، وكان أغلب رواد التغريب من الذين أضروا بثقافة الأمة وهويتها، من أمثال طه حسين وقاسم أمين ورفاعة الطهطاويّ.
وبرغم توسع الدولة العثمانية في غرب أوربا وزحفها الحثيث نحو الكتلة الثقيلة الحرجة في غرب القارة استطاع الأوربيون أن يلتفوا عليها عبر اكتشافهم لطريق رأس الرجاء الصالح، ولقد كانت الكشوف الجغرافية ورحلات كولومبس وماجلان وغيرهما مقدمة لحركات قضم متوالية استهدفت أطراف الأمة قبل أن يستهدف الاستعمار قلبها، ولو أنّ الدولة العثمانية ظلت قائمة لما جرى للأمة ما جرى، لكنهم تآمروا عليها وأسقطوها عبر سلسلة من المؤامرات كان منها إحياء وبعث القومية العربية والقومية الطورانية؛ لتهشم بنيان الأمة ويسقط جناحاها العرب والأتراك.
ولن ينس المسلمون أن الجنرالات الذين وثق فيهم زعماء العرب وأسلموا لهم رقابنا لم يستطيعوا ان يخفوا حقدهم، فهذا الإنجليزي اللورد اللنبي في القدس يعلن: “الآن انتهت الحروب الصليبية”، والجنرال الفرنسي غورو يطأ قبر صلاح الدين قائلاً: “ها نحن قد عدنا يا صلاح الدين، أمَّا أنطوني أيدن فقد أنشأ (لنا!) جامعة الدول العربية؛ لإبطال فكرة الجامعة الإسلامية التي دعا إليها السلطان عبد الحميد. (يتبع) (* ).