(ماذا لو كنَّا مسلمين؟) .. كلمة نقلها الشيخ سفر عن (توماس جفرسون) الرئيس الثالث للولايات المتحدة الأمريكية، وذلك في سياق حديثه عن الزعماء الأمريكيين الذين قيل عنهم إنهم عرفوا التوحيد وأنكروا خرافات الأناجيل، وقيل عن بعضهم – ومنهم توماس جفرسون – أنَّه كان مسلما يكتم إسلامه، وأنا في الحقيقة – من خلال اطلاعي على سيرة جفرسون كواحد من الآباء الكبار المؤسسين للولايات المتحدة ولدستورها – لا أستبعد هذا؛ فالرجل صاحب فطرة نقية وعقلية سوية وأفكار تعتبر الآن مرجعاً للمفكرين الغربيين الذين ينكرون على أمريكا انحرافها عن فكر الثورة وانحيازها للرأسمالية النيوليبرالية المتغولة والمشتطة في سيطرتها على السياسة والاقتصاد.
لكن المهم أنَّ الرجل يبهرك بقوة وعمق اطلاعه على الفكر الغربيّ وعلى منابعه وجذوره، وعلى التفاصيل التي لا يطلع عليها إلا من كان متخصصاً في مقارنة الأديان وتاريخها، وذلك في الفصل الذي عقده بعد المائة الخامسة عن الفكر الديني؛ ليخلص بالحقيقة التي لا يفتأ يكررها ويقررها في أكثر من موضع، وهي أنَّ الإسلام – من بين كل هذه النحل – هو دين الفطرة، وينطلق من هذه الحقيقة إلى حقيقة أخرى تولد من رحم الأولى، وهي أن كل خير اهتدت إليه أوربا فيما يتعلق بالحقوق والحريات والحضارة الإنسانية سبق إليه الإسلام وأتى بأكمل وأعمق منه، وقد كان واضحا أثر الفكر الإسلامي فيما دعا إليه مارتن لوثر وكلفن من إصلاح ديني برغم نقصه وعد تمامه.
غير أنَّ الشيخ لا يستغرق في الحديث عن أصول الفكر الديني المحرف؛ ليخلص سريعا على عادته إلى الأهم منه وهو آثار ذلك الانحراف الفكري على علاقة الغرب بالعالم الإسلاميّ؛ فتراه بعد تطوافة سريعة ألمت بجرائم الغرب ضد البشرية يقارن بين موقف العالم الغربي من طالب إيطاليّ واحد قتل في سجون السيسي، وبين موقفهم من مائة ألف مسلم بينهم الرئيس المنتخب يرزحون في أغلال هذه السجون نفسها ويقبعون في أقبيتها المظلمة؛ ليؤكد على اختلال المعايير وغياب العدل والإنصاف.
وكأنَّ الشيخ يأتي بسيل الأفكار من كل صوب ليدفعه بكل قوة ويصبه نقداً لاذعا حاراً على حكام الخليج، فتأمل كيف انعطف بسرعة بعد نقده لموقف الغرب من الإسلام والمسلمين؛ ليمارس ببراعة هذا الإسقاط: “أمّا دول الخليج فهي عند الحكومات الغربية مجرد مجموعات من البدو المتأخرين لديهم ثروات لا يستحقونها … وادلة غبائهم وتأخرهم كثيرة، منها أنهم يبيعون النفط بأقل مما يشترون الماء المستورد من الغرب، وأن الشركات التي تستخرج النفط والغاز غربية، ومنها أنهم يبالغون في الاحتفاء بمن يزورهم، ومنها انهم يعقدون الصفقات الضخمة مع من يعاديهم … ومنها أن يعامل الغربي غير ما يعامل المواطن؛ فللغربي ميزات كثيرة مهما كان جهله وعداوته …” صـــ 527-528
إنَّ المواقف المتناقضة للغرب والمناقضة لما يرفعه من شعارات لتؤكد الحقيقة التي نصر على تجاهلها والتغافل عنها، وهي العداوة غير المبررة لهذه الأمة ولهذا الدين، هذا ما يجتهد الشيخ في التأكيد عليه مستدلا بمواقف ترامب وأنجيلا ميركل وكامرون وغيرهم، وهو في تطوافته هذه أيضاً لم يفته أن يوجه هذه اللكزة لآل سعود: “فلا مانع لدى ديفيد كامرون أن يستقبل السيسي دون أن يدفع له شيئا كما تدفع دول الخليج؛ فكامرون لا يستطيع أن يدفع شيئاً إلا بموافقة البرلمان الإنجليزي” (ص 538). وإنها والله لسوأة أن تبقى أموال المسلمين ومقدرات الأمة في يد حاكم سفيه بلا أدنى رقابة من ممثلي الأمَّة؛ فيبعثرها ويبددها ويسخرها في يد أعداء الأمة ليستعينوا بها على سحق المسلمين ووأد الإسلام.
وبعد أن تحدث بمرارة شديدة عن شركة أرامكو الأمريكية التي ابتلعت شركة سمارك السعودية وشركات أخرى في ينبع ورابغ وغيرهما ووظفت الأمريكيين وحرمت السعوديين مع انتشار البطالة فيهم؛ انطلق للحديث عن العمل الخيري وموقف الغرب المتناقض منه، فبينما يشجعونه في أمريكا والغرب برفع الضرائب عنه ومكافأة القائمين عليه تراهم يحاصرون العمل الخيري عند المسلمين ويراقبونه ويتهمونه بتمويل الإرهاب بغرض إيقافه، برغم أن العمل الخيري عندهم قائم على منطلقات عقدية وفقهية مزيفة، بينما هو عندنا قائم على معطيات القرآن والسنة !!
وبعد جولة أشار فيها إلى المكانة التي يحظى بها رجال الدين اليهودي المتطرفين عند الحكومات الإسرائيلية يؤكد أن المشروع الصهيوني بدأ يتراجع لاكتشاف الشعوب في الغرب وغيره خبث اليهود ومكرهم بالإنسانية، كما أشار إلى ما يحمله الكيان الإسرائيلي من تناقضات جذرية قد تؤذن بقرب انهياره، لكنه يعود ليسقط على آل سعود: “ومن العجيب أن يسمح اليهود للمتدينين اليهود داخل إسرائيل بقفل دور السينما، في الوقت الذي يندفع فيه أهل التوحيد في بلاد الحرمين لفتح دور للسينما وتقوية هيئة الترفيه وتقليص صلاحيات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فانظر إلى أين يتجه اليهود وإلى أين يتجه هؤلاء !!” صــــ 550
وقبل أن يسلمه السياق عند بدايات المائة السادسة من الكتاب إلى عقد فصل خاص عن الطائفتين المكونتين لأهل الكتاب (اليهود والنصارى) عرج الشيخ على تناقضات النصارى الصهاينة، فإذا كانت البروتستانتية قد نجحت في ترقيع النسيج الفكري المهلهل الذي يربطها بالصهيونية فكيف ستنجح الكاثوليكية في ذلك وهي لم تخط إلى اليهودية مثلما خطت إليها اللوثرية المؤسسة للعقيدة البروتستانتية المتقاربة مع اليهودية ؟!
إنَّه التناقض الغريب، كما يستمر في عرض ديانات حوض البحر المتوسط وأطراف أخرى من العالم؛ ليؤكد على حقيقة لا يمل من تكرارها، وهي أنَّ الشرك واحد وأنَّ الكفر ملة واحدة. (يتبع)(* ).