“الاستعراض السريع لمجمل التاريخ البشري يثبت أن كل دين أنزله الله شامل للدنيا والآخرة، وأنه ليس في الدين إسلام سياسي وإسلام غير سياسي” بهذه الكلمات بادر الشيخ سفر الحوالي إلى حسم المسألة التي أراد أن يعالجها في الفصل الذي افتتحه مع بداية الربع الأخير من المائة التاسعة من كتابه بعنوان (الفكر السياسي) وبالطبع لم يكن هذا مصادرة مبكرة على الموضوع؛ فما أورده في هذا الفصل يؤكد أن هذه الكلمات هي خلاصة دراسة وتجربة ومعرفة متراكمة.
لقد خلق الله الخلق لعبادته، ولعمارة الأرض وفق منهجه؛ لذلك أنزل الميزان مع الكتاب (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) ولم يعرف الإسلام في تاريخه ذلك المبدأ العلماني الذي يفصل بين الدين والسياسة، ويعزل الدين عن الدولة، فالإسلام دين ودولة، والمسلمون ساسوا بالإسلام وبشريعة الله أُمماً وممالك، هذا هو الفكر السياسي الإسلامي بلا تزييف ولا تخريف، أمَّا الفكر الغربي فهو مضطرب متناقض، فبينما يرى البعض مثل مكيافيللي أن الدولة إله لا يجوز مراجعته، يرى آخرون مثل توماس هوبز أن الدولة شر لا بد منه، بل يرى بعضهم ضرورة إنهاء دور الدولة.
ومن مقتضيات ذلك أن علماء الشريعة يناط بهم دور كبير يتمثل في الحسبة والنصح للحاكم، وألا يردهم عن هذا الواجب الكبير رغب أو رهب، “فيجب على اهل العلم أن يكسروا حاجز الخوف، وألا يخشوا إلا الله، وأن يصدعوا بالحق في وجه كل من خالفه” صـــ 880 وقد شهد التاريخ الإسلاميّ بمواقف لكثير من أهل العلم والفضل بدأت من النصح والأمر والنهي وانتهت بالخروج المسلح على أئمة الجور.
ولقد شهدت السياسة المعاصرة في العالم الغربي وكذلك في العالم العربي تناقضات غاية في الفحش والشناعة؛ بسبب أنها لم تقم على قواعد أخلاقية، “من هذه التناقضات أن البعثي كان في العراق فهو كافر، وإذا كان في سوريا فهو أخ حبيب تجب نجدته … والشرعية التي يزعمون الوقوف معها في اليمن هي نفسها التي يسقطونها في مصر وحاولوا إسقاطها في تركيا” صـــ 883
هكذا الرجل يمضى على مدى صفحات عدة في كشف تناقضات السياسة المعاصرة وفضح كواليسها، لكنه لا ينفك ينعي على العرب غفلتهم وغباءهم؛ حيث يجاهر اعداؤهم بالخطط التي يستهدفونهم بها وهم يضعون أصابعهم في آذانهم ويستغشون ثيابهم: “وتخطط إسرائيل الكبرى (أمريكا) لتقسيم مصر خمس دول منها دولة قبطية في الجنوب، تزامنا مع خريطة الدم التي سيقسمون بموجبها السعودية، إذ إن التقسيمات التي وضعتها سايكس بيكو عفا عليها الزمن، ويريدون الأن تقسيم المقسم وتفتيت المفتت … ثم يتبعون ذلك بإنشاء كيانات أخرى منها (وهابي استان) التي هي وسط الجزيرة العربية” صــــ 887
وبعد أن قرر الشيخ أن الفكر السياسي الغربي تأثر كثيرا بالفكر الإسلاميّ؛ فما فيه من خير إنما عرفه من الإسلام، كالعدل والشورى والحرية وحقوق الإنسان غير ذلك، بعد جولة في تقرير هذا انثنى ينتقد الديمقراطية مؤكداً أنها كفكرة أمر خيالي وكواقع أمر مزيف غير واقعيّ، وينقل عن مفكري الغرب الكبار عبارات تؤكد ما ذهب إليه، مثل قول روسو: ” إذا أخذنا المصطلح بحرفيته فإن الديمقراطية لم ولن تطبق” وينقل عن الواشنطن بوست في 25 يناير 2017م: ” إن الديمقراطية تموت في الظلام”.
وبعد جولة في الفكر الأوربي على وجه العموم سواء منه السياسي أو الحداثي أو غيره، يقف ليقرر قاعدة رشيدة؛ فيقول: ” ونحن لا نجادل في أن لهذه الحضارة جوانب مشرقة، ينبغي بمقتضى العدل الربانيّ الاعتراف بها، ونحن المسلمين أولى الناس بأخذها والإفادة منها، كالتنظيمات السياسية والإدارية، وحرية الرأي وتطوير مناهج البحث العلميّ … ونرفض في الوقت نفسه الفلسفات الغربية والنظريات الإنسانية والاجتماعية المصاحبة للاكتشافات، وهذا دأبنا وتلك شريعتنا” صـــ 902
وعلى مدى عشر صفحات أو يزيد طفق الشيخ يبين بإيجاز محطات تطور الفكر السياسي الغربي الرئيسية؛ لينتهي غلى انه فكر بشري يعتريه الكثير من الخطأ والقليل من الصواب، وإنه لمن الخطأ والخطر كذلك ان يظهر من بين المسلمين من يدعو إلى اتباع الفكر الغربي وإلى نبذ ما جاء به الإسلام بزعم انه صار من الماضي، ” ومن اعظم الكفر بالله الزعم بأن الإسلام من مخلفات الماضي، وان الفكر الحديث أرقى منه، وهذا تفضيل صريح لآراء البشر على حكم العليم الحكيم …” صـــ 914 (يتبع)(*).