هل هناك وجود لما يُسمَّى “النظام الاقتصادي الإسلامي”؟ أم إنّها مجرد جملة من الأسس والأحكام التي تُرَشِّدُ الأداء الاقتصادي؟ هذا ما يمكن أن يتضح في سياق المقال، لكنْ ثَمَّ أطروحة مبكرة مغامرة: إذا اشتمل الإسلام على أسس عَقَدِيّة وأخرى تشريعية، مع حزمة من الأحكام المنظمة للإيرادات والنفقات والسوق، وبمحاذاة ذلك مؤسسات كبيت المال وفروعه، مع منظومة هائلة من البرامج الاقتصادية، إضافة إلى أهداف وغايات ومنطلقات مميزة؛ ألا يكون قد جاء بنظام اقتصاديّ؟
خليفةٌ في أرضٍ لا تَضِنُّ بخيراتها
إذا كانت النُّظُمُ الرأسمالية تقوم على أُسُسٍ حداثية، كسيادة الإنسان على الطبيعة، ونظرية النُّدْرة، ومبدأ الفردية، فإنّ الاقتصاد في الإسلام يقوم على أسس إيمانية، ربما كان من أبرزها: الاستخلاف، والكفاية، فالإنسان ليس سيدا على الأرض بل خليفة: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)؛ ومن ثم فما يملكه فهو على وجه الاستخلاف: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ)؛ فيجب أن يَصْدُرَ عن منهج الله في كافّة تصرفاته المالية، وأمّا نظرية النُّدرة التي تقضي بأنّ موارد الأرض لا تكفي البشرية، فهي فِرْيَةٌ لتسويغ جرائمهم، وعلى العكس يقوم الاقتصاد الإسلاميّ على أساس الكفاية، بمعنى أنّ الأرض لا تضن بما أودع الله فيها من خيرات: (وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) (فصلت: 10)؛ فما على الإنسان إلا أن يمشي في مناكبها ليُفَجِّرَ كنوزها.
كي لا يكون دولة بين الأغنياء
وتحت ظلال الأسس العقدية تقوم الأسس التشريعية التي تمثل موادّ دستورية تنبع منها الأحكام العملية المنظمة لعالم الاقتصاد والمال، أهمها مادة: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) (الحشر: 7)، فلا يصح أن يبقى المال متداولا بين الأغنياء فقط، ومن هذه المادة الدستورية انبثقت قواعد كلية؛ تتعلق بتوزيع الثروة، وإعادة توزيع الثروة، وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية، والضمان الاجتماعي، وعنها وعن القواعد الكلية صدرت الأحكام الشرعية المنظمة للحِمَى وإحياء الموات، والأحكام الحامية للأسواق، وأحكام الزكاة والفيء والخراج والوقف؛ ثم انسدلت اللوائح التنظيمية، كتلك التي وَضَعها عمر بن الخطاب لعامله على الحِمَي: “يا هُنَيّ: ضُمّ جناحك على الناس، واتق دعوة المظلوم، وأَدْخِلْ ربَّ الصُرَيْمَةِ والغُنَيْمَةِ، وإياك ونعم ابن عفان وابن عوف” أي: هذا الحِمَى مالٌ للصالح عام، فاسمح بدخوله للفقراء أصحاب الغَنَمات القليلة لا للأغنياء.
ازدواج يجني الرُّطَب وينفي العَطَبْ
هذه الآية: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)، تبرز خاصية من خصائص الشريعة، ووسطية الإسلام، وهي أنّه لا يميل في نظامه الاقتصادي إلى الرأسمالية ولا إلى الاشتراكية، وإنّما هو – بِجَمْعِهِ بين الملكية الخاصة والملكية العامّة – مُتَمَوْضِعٌ في الْمُرْتَكَزِ المعياريّ، وأوْضَحُ دليل على رعاية الشريعة الإسلامية للملكية الخاصة هو هذه المنظومة التشريعية الضخمة التي تنظم المعاملات المالية بين الأفراد، وتستهدف حماية الأموال المملوكة للأشخاص من الربا والغرر والغش والتدليس والسرقة والغصب وغير ذلك، وتقيم التعامل على قاعدة التراضي: (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ)، أمّا الملكية العامّة فيمثلها كثير من مصادر بيت المال، كالصدقات والفيء والخراج وخمس الغنائم والحمى، وكل مال تقوم الدولة بالوكالة عن الشعب باستثمارة وتنميته للصالح العام، وهناك وراء ذلك ما يسمى بالأموال المشتركة، التي يشترك فيها الجميع، في حديث: (المسلمون شركاء في ثلاثة: الماء والكلأ والنار)، ويقصد بالنار الطاقة، ويقاس على هذه الثلاثة كل ما يكون نَفْعُهُ عاما ولا غنى للناس عنه ولا يُبْذَلُ في الحصول عليه أموالٌ كبيرة، وقد قاسها “أبو يوسف” على الفَيْءِ، في اختصاصها بالصالح العام والْمعْوَزين.
اتساعٌ يستوعب الطاقات ويستخرج الخيرات
أجمع الفقهاء على جواز المضاربة والعنان، وتَرَجَّحَ في الفقه الإسلاميّ جواز سائر أنواع الشركات كالمزارعة والمساقاة وشركة الأعمال، وتَرَجَّحَ في الفقه المعاصر جواز شركات المساهمة وأمثالها، كل هذا حلال مادام قائما على قواعد العدل الشرعية، مثل: “الغُرْمُ بالغُنْم” ومثل: “يتحدد العائد على كل شريك نسبة مئوية من الربح لا من رأس المال”، وقد تم وضع برامج تنموية شرعية معاصرة، مثل الصكوك بأنواعها، كصكوك المضاربة وصكوك المزارعة والمساقاة والمغارسة، وصكوك السلم والمرابحة، وكل هذه برامج إن تم تفعيلها وكانت الدولة شريكة وراعية أدى ذلك إلى تنمية هائلة.
استقرار واستقلال
والسياسة النقدية لها دور كبير في استقرار الاقتصاد ونموه؛ لذلك اهتم التشريع الإسلاميّ بالنقد، وشُرِعَتْ له أحكامُ الصرفِ التي استهدفت الحفاظ عليه واستقرار التعامل به، واستهدفت كذلك عدم خضوعه لهيمنة محلية أو عالمية، ومِنْ أجلِ استقرارِ الأسواق وخضوعِها لقوانين العرض والطلب؛ حَرَّمَ الإسلامُ الاحتكار، ومنع التسعير إلا في حال التلاعب بالأسواق، وقيد تدخل الدولة بالمصلحة العامة، ومنع من تَلَقِّي الْجَلَبِ، الذي يتمثل الآن في احتكار التوكيلات، كما مَنَعَ النَّجْشَ، وهو إثارة السعر، ومن أمثلته ممارسات بعض المزادات، والغلو في الدعايات.
مثلث التنمية والنهضة
هذا الحديث أرسله المغيرة بن شعبة إلى معاوية: (إنّ الله كره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال)، هذا الحديث يُلْزم الأمة بالحفاظ على مثلث النهضة والتنمية: الموارد البشرية والموارد الطبيعية والوقت، فأمّا “قيل وقال” فهي رمز لإضاعة الوقت، وأما “كثرة السؤال” أي فيما لا يفيد، فَيَرْمُزُ لتَبْدِيد الطاقة الذهنية التي هي رأس الموارد البشرية، وأما إضاعة المال فَيَرْمُزُ لكل صور تبديد الثروات والموارد الطبيعية، وقد عُرِفَ عن النبيّ أنّه كان يَذْكُرُ الشيء ليُنَبِّهَ به على أمثاله، وهذا من أساليب العرب البُلَغاء، وللحديث روايات عديدة متعاضدة تدل جميعها على أنّه وارد في أسباب القوة الاقتصادية.
هَلُمُّوا إلى الفلاح فأنتم أهله
إنّنا أمّة لم تُخلق لتعيش ذليلة تابعة، ولم يتركها الإسلامُ تَتَسَوَّلُ الأمم وتَتَكَفَّفُها باحثة عن طريق الرشد الاقتصادي، كيف وقد تَقَرَّر في ختام الرسالة: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)؛ فحيّ على الفلاح، بالخلاص من هيمنة العولمة، وبالنهوض الاقتصادي الذي يحقق التنمية، ويقضي على الفقر، ويقيم العدل في تقاسم الثروة.
نقلاً عن موقع الجزيرة مباشر – 21/ 1/ 2023