مع تفرق الأمصار واختلاف المصالح بتفرقها، ومع تفاوت الناس في تقدير المواقف بما تتفاوت معه الرؤية لمعالجة هذه المواقف، ومع ما نراه ونشهده من تباين شديد في فهم النص وفهم الواقع بما يترتب عليه من تباين أشدّ في التنزيل وطرائق التأويل، كيف يمكن أن تتجه سهامنا جميعا صوب عدونا دون أن يرمي بعضنا بعضا أو يصيب بعضنا بعضا؟ برغم ما بيننا من اختلاف فكريّ وتنازع ولائيّ وتهارج وتهارش سِباقيّ، وبرغم ما نعانية من خصومات أغلبها مفتعل وكثير منها يَنْبُتُ مما يغرسه العدو بيننا من فتن وإحن وثارات، وقبل هذا وذاك: كيف نستطيع أن نُرَشِّدَ خطابنا وفعلنا ومواقفنا بما لا يوسع الخرق على الراقع؟ في ظل ازدياد الساحة الفكرية والفقهية اضطرابا وتخبطا؛ مع صعود الكثيرين ممن انتسبوا إلى العلم والفكر بلا رصيد تربويّ ولا زاد من التقى والصلاح، كيف يتسنى لنا ذلك كله؟ وقد تعددت المصائب وتكاثرت النوائب وصارت قضية الأمة قضايا تنوء بها أُمَم، وصرنا معها لا ندري أيّ بلد من بلادنا أولى بالبكاء عليه من الآخر!
يلي هذه الأسئلة الكبيرة الكثيرة سؤال واحد: ما المخرج للأمة من هذه الحالة التي يُصَفِّي فيها بعضنا بعضا؛ وهو يظنّ أنّه ينصر قضيته ويعزّ دينه؟ ومِن وَضْعٍ يكون فيه العدو هو الرابح الوحيد بينما يبوء الجميع عندنا بالبوار والخسران؛ جرَّاءَ التقاذف بكل ما يجب أن نقذف به العدو، ما المخرج وقد وقعت الأمة بأسرها تحت الحصار الكامل الشامل، ثم كَفَتْ عدوها الذي يحاصرها مؤنة القيام باستنزاف طاقات المسلمين وإذهاب ريحهم وإنهاك قواهم؟ ما المخرج وما السبيل؟ وقد تاهت الحقيقة وحارت المفاهيم واضطربت القناعات وتناقضت الولاءات؛ بسبب هذه الحالة من التناقض في المواقف والتصريحات؟!
بالأمس القريب استيقظت الأمة المكلومة على أصوات الصواريخ (الغَزَّاوية) وهي تدك قلب إسرائيل وتتحدى قَبَّتَها الحديدية، وما هي إلا أيام حتى تحقق لغزة وللمقاومة الفلسطينية على وجه العموم نصر عزيز، نصر – وإن كان جزئيا – يبشر بانتصارات وفتوحات كبيرة؛ فأحسّ المسلمون بالعزة وتبددت غيوم اليأس والإحباط، وأمسى الناس يقولون: ها هي تجربة من النضال ناجحة؛ فلتكن هذه التجربة أنموذجا يحتذى؛ ولم لا؟! أليس العدو الذي يواجههم أخٌ حميم للعدو الذي يواجه الشعوب العربية كافّة؟! أليس صهاينة العرب أشد استبدادا وبغيا من صهاينة اليهود؟! أليس هؤلاء وأولئك أدوات النظام العالميّ الذي تقوده أمريكا والغرب في مواجهة الإسلام؟! ففيم التفريق بين متماثلين لمجرد اختلاف الطلاء الخارجيّ؟!!
وكأنّ الأعراب الجاثمين بكروشهم فوق عروش البلاد قرأوا ما يدور بأخيلة الشعوب؛ فعمدوا إلى تلويث المنبع حتى يُحَرِّموه على جميع الشاربين؛ وقصدوا تشويه الأنموذج حتى يفوتوا على الخلق فرصة الاقتداء والتأسي؛ فرأينا السيسي – الكنز الاستراتيجي لإسرائيل – يدين العدوان الإسرائيلي، وسمعنا – ويا للعجب – استنكارا من المطبّعين، الذين دخلوا جحر الضب ولم يخرجوا منه حتى بعد حصار الصهاينة للأقصى، وبَلَغَنَا – ويا للعار – أنّ أحد الذين استنكروا وأدانوا هو عدو الإنسانية بشار!!
فصار واجبا على حماس – وللضرورة أحكام أَحَدُّ من الماس – أن تنثر ورود النصر وباقات الشكر على هؤلاء جميعا، ومن باب أولى تُوَجِّه الشكر الجزيل الطويل إلى الذين أَمَدُّوا لها يد العون في وقت تخلى عنها الجميع وأداروا لها الظهور وقلبوا لها رأس المجنّ، ولم ينس قادة حماس أن يكيلوا لهؤلاء على وجه الخصوص من الثناء والتمجيد بلا حساب، فغمروا إيران وأبناء عمومتها من الحوثيين بأكثر عبارات الشكر والثناء دفئا وحميمية؛ حتى كاد الناس أن ينسوا لحماس نضالها وينسبوا الفتح لأحفاد ابن السوداء.
ومن يومها إلى يومنا هذا والجدال لا يتوقف في كل الساحات والباحات، بدءاً من مجموعات (الواتسآب) وما شابهها ومروراً بصفحات (الفيسبوك) و (تويتر) وانتهاء بالمواقع والمجلات وشاشات الميديا بكافّة أنواعها؛ فمن مؤيد أبداً لحماس وقادتها وملتمس لهم الأعذار، ومن ساخط ناقم عليها يرميها بأقذع الألفاظ وأحط الشتائم ويتهمها بتهم ربما يعلم هو قبل غيره أنهم منها براء، وبين هؤلاء وهؤلاء أقوام كُثْرٌ عبروا عن حيرتهم وإبلاسهم بالسكوت تارة وبمحاولة التفسير أو التبرير تارة أخرى.
وليس هذا هو الأخطر برغم ما فيه من خطورة ظاهرة، بل الأخطر هو تفرقُ علماء الأمة ومفكريها وقادتها ودعاتها وَتَوَزُّعُهُم على رؤوس هذه الكتائب المتناحرة وفي مقدمة تلك الطلائع المتنافرة؛ فهذا يؤيد وذاك يعارض، وكلّ يسوق من الآيات والأحاديث ما يظنّ أنّه يحوز به النصر على الآخرين، وكأنّ النصوص المقدسة – وحاش لله – قد أَفْرغت معانيها الحقيقية ونَفَضَت ما أناط بها الشارع من أحكام، وصارت خالية من المعاني خالصة للمباني، كأنّها أوعية محايدة يحق لكل من ظفر بها أن يملأ فراغها بما شاء من الدلالات والمعاني والأحكام!!
أمّا الهيئات والروابط والاتحادات تلك المؤسسات المتخمة بالأسماء والألقاب ولا تملك من أدوات الضغط والتأثير سوى البييانات التي يكتبها أحدهم ويوقع عليها سائرهم؛ فقد كانت مواقف أغلبها مراعية بدرجة ما وبصورة أو بأخرى لنبض وحسّ الجهة الداعمة أو الدولة الراعية، وبذلك يضعف البلاغ ويختل البيان الواجب والذي لا يجوز لمجموع الأمة تأخيره عن وقت الحاجة.
وصار الخلق – وحقّ لهم ذلك – حائرين بائرين مفلسين مبلسين؛ أيكون على شعب فلسطين أن يعتقد بأنّ السيسي وبشار والسليماني والحوثي من أولياء الله ومن زعماء الجهاد في الأمة؟ فإن كان هذا مطلوبا من شعب فلسطين أَفَيَكُون أيضا مطلوبا من الشعب السوريّ الذي سالت دماؤه كالأنهار على يد بشار؟! ومن الشعب العراقيّ الذي ملأت أشلاؤه الفلوات على يد قاسم سليماني؟! ومن الشعب اليمنيّ الذي تشتت في الآفاق وتمزق في شعاب الجبال بعد أن تهدمت بلاده على يد الحوثيّ بدعم من إيران التي تدعم حماس؟! ومن الشعب المصريّ الذي باع (السيسيُّ!) حاضرَهُ ومستقبَلَهُ وشريانَ حياته بأبخس الأثمان؟! أم إنّه من الواجب على كل هذه الشعوب المختلفة أن تؤمن بأنّ لكل بلد عدوها ولكل قوم قضيتهم ولكل زمان ومكان مقاييس للحق والباطل تتغير أبداً فلا تثبت على قدم ولا تقف على ساق، وتتبدل دوماً فلا يمت اللاحق منها للسابق بأدنى سبب؟!
ثم يأتي الأمر الأشد خطورة، وهو حيرة الخلق في الوقوف على الحقيقة وسؤالهم الذي لا يستقرّ: هل يمكن أن يتسع فقه الضرورة وفقه الموازنة بين المصالح والمفاسد لاستيعاب مواقف وتصريحات متباينة أحدثت بهذا التباين حالة من الارتباك في القناعات والاضطراب في المواقف؟ أم إنّ هناك ضوابط تنظم هذه المسألة؟ وإذا كانت هناك ضوابط شرعية فهل جهلها القادة أم تجاهلوها أم عندهم لها تأويل، وإن كان ثَمَّ تأويلٌ فما عساه أن يكون؟ وهل سَيُهَدِّئُ من هذه الثورة المحتدمة في العقول والقلوب؟
أنا لست هنا بصدد الحكم على ما صدر عن حماس من مواقف وتصريحات، وليس من الضروريّ ولا من المصلحة كذلك أن أتعجل الحكم وأرتجله هنا ارتجالا، وإنّما نحن جميعا بصدد رصدٍ لظاهرة لا يصح أن نتجاهلها، وبحثٍ عن علاج لآثارها لا يسوغ الانشغال عنه ولا الخوض فيه بغير علم، نحن بصدد الدراسة الموضوعية العلمية المتجردة لحالة أثارت الانتباه واستدعت التحفز والتوفز للذهاب إلى حالة تكثر فيها التدابير الاحترازية التي تحمي الأمة من اتساع نطاق الظاهرة بما يمكن أن يأتي على جميع المكتسبات.
وقل مثل هذا في تصريحات ومواقف لكثير من المسئولين القطريين والأتراك مع محاولات التقارب، تلك المحاولات التي تجري الآن وتواصل سيرها إلى غاية لاندري ما هي، ولا يختلف العقلاء المخلصون للأمّة في أنّ تقارب البلاد العربية والإسلامية خير كبير للشعوب ما لم يكن ذلك على حساب حرياتها وحقوقها وقضايا دينها، لكن ما الموقف إذا توسع بعض المسئولين في تصريحات بالاعتراف بشرعية نظام السيسي! ماذا لو توالت التصريحات والمواقف الصادمة لطموحات الشعوب وأحلامها، والتي ربما تصطدم ولو في الظاهر مع قيم ثابتة ومبادئ راسخة في أذهان هذه الشعوب؛ أيكون على الشعوب أن تصدق المسئولين وتمضي خلفهم لا تلوي على شيء؟ أم يجب عليها أن تكفر بهم وبما صدر عنهم من مواقف وتصريحات؟ أم إنّ وراء ما يصدر مخالفا للقيم والمبادئ حكمة لا تعلمها العامّة؟ وكيف نكلف عوام الناس بأن يكونوا على درجة من النباهة والذكاء السياسي بحيث يدركوا تلك المعضلات التي تنشأ من تناقض المواقف ومخالفتها لصحيح المنقول وصريح المعقول؟ هل يوجد لدينا قواعد وأسس وأحكام يمكن التعويل عليها في ضبط الأمور عندما تقع الفوضى الناشئة من فقدان الثقة الذائع الشائع؟
وقل أكثر من هذا وذاك عمّا صدر وعمّا يمكن أن يصدر عن قيادات دعوية وسياسية منتسبة للتيار الإسلاميّ لدى الوقوع تحت طائلة الأحداث الصعبة والمواقف المربكة؟ فهذا على سبيل المثال سياسيّ على رأس العدالة والتنمية في المغرب يتولى بنفسه التوقيع على اتفاقية تطبيع مع العدو الصهيونيّ؛ ويبرر ذلك بتبريرات لا تغني من الحقّ والحقيقة إلا بقدر ما يغني عن الجوع الاستياك بعود الأراك! ماذا يجب على الشباب المنتمي لهذا الحزب وهذا التيار؟ أيكون عليهم أن يصدقوه ويتبعوه؟ وإذا أوجبنا عليهم هذا أفنوجبه كذلك على الإسلاميين في مصر وفلسطين والشام وغيرها من بلاد الإسلام؟ أم يكون لكل بلد قناعة تفرضها على شبابها بما فيهم أبناء التيار الإسلاميّ نفسه؟
كثيرة جداً المواقف التي يمكن أن تقع، بل بالتأكيد – حسب قراءة الأحداث – سوف تقع؛ فما هو واجب علماء الأمة لتدارك ما يمكن أن يقع من الفوضى قبل وقوعه ولعلاجه إنْ وقع، ولا نظنه إلا واقعاً؟ وما الذي يجب على المسئولين بكافة مستوياتهم، وما الذي يجب على الشعوب؟
لا ريب أنّ الشريعة لم تترك المسلمين نهبة للفتن، وأنّها قد اشتملت على ما يعصمهم من التشتت والاندثار في مثل هذه الأخطار؛ فما هي القواعد والأحكام التي جاءت بها الشريعة والتي يجب إحياؤها وتفعيلها للخروج من الأزمة وعدم الانسحاق تحت طواحينها؟ هذا ما سوف نتناوله في سلسلة من المقالات؛ نحاول فيها التصدي للأمر متجردين للحقيقة، دون تحيز لأحد أو ضد أحد.
لكن قبل أن نبرح هذا المقال التمهيديّ الذي يوطد بما ساقه من تساؤلات مفتوحة لتشييد القواعد واستدعاء الركائز؛ قبل أن نبرح هذا الموقف ونختم هذا المقال أحب أن أتعجل القول بإيجاز في مسألة لعل تفصيلها يتصدر ما سنتعرض له لاحقاً، وهي مسألة العلاقة بين القضايا الجزئية الإقليمية والقضية الأمّ، فنحن إذا لم ندرك القضية الجامعة وعلاقتها بقضايا البلدان المتفرقة فلا يمكن أن يتحقق لنا شيء مما نتشوف إليه ونمضي نحوه.
والذي لا يشك فيه عاقل ابتداء هو أنّ جميع القضايا التي تعالجها البلدان الإسلامية، وجميع النوازل التي حلت بتلك البلدان؛ لا يمكن بحال أن تكون متقاطعة متدابرة، أو متباعدة متنافرة؛ بما يجعل لكل شعب من الشعوب المسلمة ولكل بلد من بلاد الإسلام قضية أو نازلة يمكن أن تعالج ولو على حساب القضايا والنوازل الخاصة بالآخرين من ديار الإسلام، لا يمكن أن يكون حقن الدماء في بلد بإسالتها في بلد آخر، لا يمكن أن يكون هدم الطواغيت في صقع بإحيائها في أصقاع أخرى، لا يمكن أن يكون القاتل السفاح لشعب حمامة سلام ورسول وئام لشعوب أخرى، لا يمكن أن يكون عدو الثورة في بلد مفجرها وراعيها في بلد آخر، لا يمكن أن يكون المستبد الذي يتسول الشرعية بإهدار مقدرات بلده داعما للشرعية في بلاد أخرى، هذا كله لا يمكن أن يحدث حتى يذوب النفط في إناء واحد مع الماء الزال، هذه حقيقة بدهية غاية في الوضوح والرسوخ.
فالأمة الإسلامية أمّة واحدة، ربها واحد ورسولها واحد ودينها واحد وشريعتها واحدة وقبلتها واحدة، وكذلك عدوها واحد وإن تعددت أنيابه وتنوعت مخالبه وتشتت آماله ومآربه، وقضاياها قضية واحدة وإن تعددت ألوانها وتباينت أشكالها، هذه القضايا المتعددة وهذه النوازل المتنوعة حزمة واحدة ترتبط برأس واحدة.