“الأمةُ الإسلامية أمّةٌ واحدة، ربها واحد ورسولها واحد ودينها واحد وشريعتها واحدة وقبلتها واحدة، وكذلك عدوها واحد وإن تعددت أنيابه وتنوعت مخالبه، وتشتت آماله ومآربه، وقضاياها قضية واحدة وإن تعددت ألوانها وتباينت أشكالها …” ووعدت حينها بأنْ يكون هذا المقال عن “القضية الواحدة”.
أجل .. إنّها قضية واحدة؛ وإن تعدّدت النوازل التي حلت بالأمة الإسلامية، فجميع هذه النوازل التي تفرقت بتفرق البلدان وتباينت بتياين الأزمان واختلفت في أشكالها باختلاف الظروف والأحوال ليست قضايا متمايزة، وإنّما هي قضايا متفرعة عن قضية واحدة، أو هي بالأحرى نوازل تمثل أصداء للقضية الواحدة، التي هي بالتحديد وبلا أدنى تعقيد: “ضعفُ الأُمَّة وهوانُها وَتَحَكُّمُ أعدائها في مصيرها” فالقضية الفلسطينية رغم قدمها ومركزيتها وعراقة صراعها فرع على هذه القضية الأمّ ونازلة من نوازلها، وقل مثل ذلك تماماً عن سائر النوازل التي حلت بالأمّة في العراق وأفغانستان والبوسنة والشيشان وسوريا واليمن ومصر وغيرها، بل قل مثل ذلك في جميع البلدان العربية والإسلامية التي لا يمثلها حكامها إلا بقدر ما كان يمثلها من قبل المندوب السامي للاحتلال؛ فلا استقلال في القرار السياسي، ولا كرامة للمواطن، ولا حرية ولا ممارسة سياسية ولا عيش كريم ولا أمن ولا حاضر ولا مستقبل، وجميع الأنظمة في كل هذه البلدان إمّا انقلبت على ثورات شعوبها فتحولت البلاد إلى فوضى وضياع، وإمّا وَأَدَتْ تلك الثورات وهي لا تزال أجنة في أرحام الشعوب فآلت البلاد وآل معها العباد إلى حال لا يعرفون فيها هل هم أحياء أم أموات؟ أيثورون أم يموتون كمدا؟
ذلك لأنّ الحقيقة أنّ “الأمةُ الإسلامية أمّةٌ واحدة، ربها واحد ورسولها واحد ودينها واحد وشريعتها واحدة وقبلتها واحدة؛ وكذلك عدوها واحد، وإن تعددت أنيابه وتنوعت مخالبه وتشتت آماله ومآربه” بل إنّ أمّة الإسلام – بالمعنى الجوهريّ للإسلام – من لدن آدم عليه السلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها من الأنام أمّةٌ واحدة، فإنّ الله تعالى قَصَّ علينا طرفا من قصص الأنبياء في سورتي الأنبياء والمؤمنون، وختم في الأولى بقوله: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء: 92) وفي الثانية بقوله: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (المؤمنون: 52) وأعقب الموضع الأول بقوله: (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ) (الأنبياء: 93) والموضع الثاني بقوله: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (المؤمنون: 53)؛ فالأصل هو هذا، والذين تقطعوا أمرهم ومزقوا شمل قضيتهم وفرح كل حزب منهم بما لديه مما يراه مقومات لدعم قضيته، هؤلاء مرجعهم إلى الله تعالى، هذا بعض ما تحمله الآيات من المعاني التي لا تتناقض مع المعنى الأصلي، بل تدعمه كما يدعمها.
هذه الأمّة الواحدة لها قضية معاصرة جامعة، انبثقت عنها كل القضايا التي تعانيها بلدان المسلمين كافّة، وقد ورد في ذلك حديث صحيح، عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا»، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ»، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: «حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ»([1]).
هذه هي أمّ القضايا، هذه هي القضية الجامعة التي تفرعت عنها سائر القضايا، تفرعت القضايا الجزئية وتفرقت وتنوعت وتعددت؛ ومع ذلك لم تنفصل عن أصلها وجذرها، اختلفت في شكلها ومضمونها ومع ذلك لم يقع بينها تنافر لأنّها اختلفت تنوعاً لا تضاداً، ومن ثمّ فلا مسوغ لجعلها قضايا مختلفة لمجرد نزول حدود سايكس بيكو التي تولجت خطة الإسلام ومزقت خريطة الأمة الإسلامية.
فقضية فلسطين التي هي محور النوازل التي نزلت بالأمة في عصرنا الحاضر هي في حقيقتها أحد تجليات القضية الأم (ضعف الأمة وهوانها وتحكم أعدائها في مصيرها)؛ إذْ لولا ذلك لما اختار بلفور فلسطين من بين مقترحات عديدة كانت مطروحة آنذاك لتكون وطنا قوميا لليهود، ولولاه لما هاجرت العصابات اليهودية إلى فلسطين بدعم من الاحتلال الإنجليزي الذي تقاسم مع فرنسا العالم العربيّ لذات السبب ولنفس العلة، ولولاه لما أقامت إسرائيل دولتها على أرض فلسطين وسط جعجعات الأعراب الذين هزمتهم إسرائيل في جميع معاركها العسكرية والسياسية لذات السبب أيضا.
وقل مثل ذلك في جميع النوازل التي حلّت بالأمة في سوريا والعراق واليمن وليبيا، ثم صارت أشد وطأة مما حل بفلسطين رغم أنّ قضية فلسطين لا تزال هي النازلة المحورية إلى اليوم، وما حلّ بتلك البلدان هو للسبب ذاته: (ضعف الأمة وهوانها وتحكم أعدائها في مصيرها) فالشعوب عندما قامت بثوراتها لم تدرك أنّ أعداءها للأمة بالمرصاد، وأنّهم يطوقونها عسكريا وسياسيا وأمنيا، ويخترقونها ثقافيا ومخابراتيا، ويهيمنون على مفاصلها بشتى أنواع الهيمنة، فوقع ما وقع من الانقلابات وما بعدها من الفوضى المقصودة لإعادة التقسيم على أسس عرقية وطائفية وإثنية.
ومن ثمّ فإنّه لا يصح أن تضطرب مدلولات المفردات الكبرى التي تحدد الأطر العقدية والشرعية والمفاهيمية والشعورية التي تتحرك فيها الأمة، هذه المتقابلات الحاسمة: الحق والباطل، العدو والصديق، الولاء والبراء، المجاهد والسفاح، الشهيد والهالك، السنة والبدعة، الإيمان والكفر، الهدى والضلال، هذه المتقابلات وغيرها يجب أن تكون واحدة في جميع الأقطار، فالعدو السفاح المبتدع الضال الهالك عند شعب العراق وسوريا لا يكون صديقا حميما مجاهدا شهيدا عند شعب فلسطين، والولاء والبراء لا يختلف مدلوله ولا تضطرب تطبيقاته باختلاف المواقف السياسية من التطبيع مع العدو الإسرائيليّ، فلا يكون المسلم في فلسطين والعراق والشام معاديا للصهاينة بينما المسلم في الإمارات والبحرين مواليا لهم، وهكذا في جميع المواقف، يجب أن تكون المفاهيم واحدة وثابتة وأن تكون المواقف المبنية عليها كذلك واحدة وثابتة ومنضبطة؛ ذلك لأنّ الأمة أمة واحدة ولأنّ قضيتها واحدة.
وإذا كانت قضية أمتنا الإسلامية وما يتفرع عنها من نوازل واضحة ومعلومة، فإنّ الأطر الجامعة لهذه الأمة واضحة كذلك ومعلومة، فلا لبس ولا غموض في مفهوم الأمة وما تنطبق عليه في الواقع، فجميع أهل القبلة يشملهم مفهوم الأمة الإسلامية، وهي الدائرة الأوسع، دائرة أهل القبلة، وبداخلها دائرة تمثل سواد الأمة الأعظم وهي دائرة أهل السنة، التي هي الأولى بمفهوم الأمة، وبداخل هذه الدائرة الخاصة دائرة أخص وأضيق، وهي دائرة الطائفة المنصورة القائمة بأمر الله، والتي تشمل المجاهدين والمرابطين والعاملين للإسلام في كل مكان، وجميع هذه الدوائر داخلة في الإطار الجامع الكبير إطار أهل القبلة الذي ينطبق عليه مفهوم الأمة، والذي لا يشذّ عنه إلا الملاحدة من الفرق التي نصّ العلماء السابقون على كفرها وإلحادها وزندقتها، كالنصيرية والعلوية والقرامطة وغيرهم، أو تكلم المعاصرون من علماء الأمة فيهم كالبهائية والقديانية وعبدة الشيطان وغيرهم، أو الذين خرجوا على الأمة وعلى عقيدتها كالعلمانية الصريحة المحاددة لشرع الله تعالى والمعاندة لدينه.
فالشيعة والزيدية والإباضية والقوميون وغيرهم لا يخرج الفرد منهم من الأمة إلا إذا جاء بما يخرجه من الإسلام، كأن يقول الشيعيّ ويجهر باعتقاد أنّ لديهم قرآن فاطمة فيه ما ليس في هذا القرآن، فما لم يقل الفرد المسلم من فرقة أو جهة بما يكفره فهو مشمول بمفهوم الأمة، وعداؤنا ليس مع الشيعة كمذهب وإن ضلّلناهم بذلك ولا مع الزيدية كمذهب وإن بدّعناهم بذلك، عداؤنا ليس مع المذاهب ولا مع الشعوب التي تمذهبت بهذه المذاهب، وإنّما عداؤنا مع مشاريع اتخذت من هذه المذاهب قاعدة انطلاق لها، فالمشروع الإيرانيّ ورموزه من الساسة والملالي هو العدو دون الشعوب، وهذه الطائفة ومثلها طائفة الحوثيّ هي العدو تحديداً، ويلحق بهم من رضي وتابع وقاتل معهم من شعوبهم.
وقد رأينا الصحابة كيف فرّقوا بين التمذهب بمذهب معين وبين اتخاذ هذا المذهب مشروعا للحرب على الأمة، فهذا عليّ رضي الله عنه – وهو الذي أسس وأصل لفقه التعامل مع نوازل الفتن – كيف فرق بين الحالين بشأن الخوارج، حيث أمسك عن قتالهم عندما اكتفوا في أول الأمر بإعلان مذهبهم، وقال: “لَهُمْ عَلَيْنَا ثَلَاثٌ: لَا نَمْنَعُهُمُ الْمَسَاجِدَ أَنْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهَا، وَلَا نَمْنَعُهُمُ الْفَيْءَ مَا دَامَتْ أَيْدِيهِمْ مَعَ أَيْدِينَا، وَلَا نُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يُقَاتِلُونَا “([2])، فلما قتلوا عبد الله بن خباب، وقالوا كلنا قتله، استعان عليّ بالله وقاتلهم؛ فانظر كيف كان فقهه للأحاديث الواردة بشأن الخوارج ووجوب قتالهم؟!
وما يقال في الخوارج يقال في الشيعة ويقال في المداخلة الذين ينتسبون للسنة، فمالم يتخذوا من مذهبهم مشروعا للحرب على الأمة فهم مشمولون بمفهوم الأمة الواسع في دائرته الواسعة دائرة أهل القبلة، وإن بدعناهم أو ضللناهم أو فسقناهم بذلك، ولا يكفر منهم إلا من أتى مكفرا أو ناقضا صريحاً، فمن اتخذ منهم من مذهبه مشروعا يخرج به على الأمة خرج منها ووجب معاداته، كما فعلت إيران وكما فعل الحوثيون في اليمن وكما فعل المداخلة في ليبيا وكما فعل الدواعش في سوريا والعراق.. (يُتبَعُ)