لا يزال حديثنا عن القواعد المنظمة لحال الضرورة ممتداً، فها هو المقال الثاني في هذه السلسلة، وقد بدأنا حديثنا في المقال السابق عن القواعد المنظمة لحال الضرورة، وقلنا إنّ أغلبها ينتمي إلى باب القاعدة الأم “المشقة تجلب التيسير” وبعضها ينتمي إلى أبواب أخرى، وأجملناها فما يلي:
– الضرورات تبيح المحظورات.
– لا واجب مع العجز ولا حرام مع الضرورة.
– الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة وخاصة.
– الضرورات تُقدَّر بِقَدْرِها.
– ما جاز لعذر بطل بزواله.
– الاضطرار لا يبطل حق الغير
– إذا زال المانع عاد الممنوع
– الميسور لا يسقط بالمعسور
– الضرر يدفع بقدر الإمكان
– يُختار أهون الشرين
– إذا تعارضت المصالح والمفاسد قدم الراجح منها على المرجوح.
– الأمور بمقاصدها
وتحدثنا عن القاعدتين الأولى والثانية، والآن نكمل الحديث.
القاعدة الثالثة: “الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة”[1]:
هذا هو لفظ المجلة والسيوطى وابن نجيم، أما لفظ الزركشى والجوينى فهو “الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة في حق آحاد الناس” واللفظان متقاربان.
ومعنى القاعدة “أن الحاجة يمكن أن تنزل منزلة الضرورة في تجويز الممنوع شرعاً”[2] وبمعنى أكثر وضوحاً: “أن ما يفتقر إليه المكلف في حياته ويلحقه بفوته حرج وضيق فإنه يعطى حكم الضرورة فيبيح المحظور المناسب لمقام الحاجة، ليرتفع الحرج والضيق عن المكلف”[3] وذلك مثلما حدث للمسلمين أن افتقروا واحتاجوا إلى بيع البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة؛ بسبب ظرف الجهاد والغزو وخلت أيديهم من العير التي يستكملون بها عدة الجهاد. فأبيح لهم ذلك مع أن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة متفاضلاً مع اتحاد الجنس ممنوع على الصحيح الراجح.
ومن الآثار المهمة للقاعدة أنَّ “الحاجة الشديدة يندفع بها يسير الغرر، والشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضتها حاجة راجحة أبيح المحرم”[4] ومن أمثلته جواز العرايا الذي ورد به الحديث الآتي ذكره بعد قليل، “والظاهرة أن ما يجوز للحاجة إنما يجوز فيما ورد فيه نص يجوزه، أو تعامل، أو لم يرد فيه شئ منهما ولكن لم يرد فيه نص بخصوصه وكان له نظير في الشرع يمكن إلحاقه به وجعل ما ورد في نظيره وارد فيه”[5]
ومن أدلة هذه القاعدة ما رواه أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا بخرصها من التمر، فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق”[6] مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن المزابنة وهى بيع الرطب على النخل بتمر على الأرض, وذلك لأن الرطب ينقص إذا يبس، فيحدث الغرر. لكن لما كانت حاجة المسلمين إلى بيع العرايا قبل قطع الثمر شديدة أبيح لهم ذلك بشرط خرص الثمر الذي على النخل وحرزه وتخمينه، وبشرط أن يكون ذلك في حدود خمسة أوسق أو دونها، أي في حدود الحاجة، ومن أدلتها أيضاً حديث ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات: من لم يجد النعلين فليلبس الخفين ومن لم يجد إزاراً فليلبس السراويل للمحرم “[7] فهذه الحاجة التي ألمت بالناس نزلت منزلة الضرورة وأبيح لها المحظور، والأدلة على ذلك كثيرة، وإنما تعرف باستقراء فروع الشريعة.
ومن تطبيقات هذه القاعدة في ميدان السياسة الشرعية أنّ الثابت في الشرع قيام أهل الحل والعقد بتولية من تتوافر فيه شروط الإمامة ومؤهلاتها، لكن “إنْ لم يكن في الزمان من يستجمع صفات أهل الاختيار، وكان الداعي إلى اتباعه على الكمال المرعي، فإذا استظهر بالقوة، وتصدى للإمامة، كان إماما حقا، وهو في حكم العاقد والمعقود له، والدليل على ذلك أن الافتقار إلى الإمام ظاهر، والصالح للإمامة واحد، وقد خلا الدهر عن أهل الحل والعقد، فلا وجه لتعطيل الزمان عن والٍ يذُبُّ عن بيضة الإسلام، ويحمي الحوزة، وهذا مقطوع به لا يخفى دركه على من يحيط بقاعدة الإيالة”[8].
وعلى غرار ذلك إذا كان المسلمون في واقعنا المعاصر في بلد ما غير قادرين على مواجهة العلمانية ودحضها وإلغائها، ولم يكن لهم قدرة على إقامة نظام شرعيّ يطبق شريعة الله، وألجأتهم الحاجة إلى التواجد في الحكم تحت مظلة العلمانية؛ للتخيف من ضغط الحكم العلمانيّ عليهم، ولحفظ وحماية أرواح الناس وحرياتهم، ولفتح طريق للتمكين ولو بالتدريج، ولإيجاد أرض يحكمها مسلمون مستقيمون تكون ظهيرا للإسلام وأهله، ولغير ذلك من الأسباب الملجئة التي تقترب من الضرورة وإن لم ترتق إلى مستواها، لكنّها عامّة وطامّة، فإنّه يجوز لهم ذلك للحاجة التي تنزل منزلة الضرورة، بشروط سيأتي الحديث عنها مع تناول القواعد الأخرى التي تسهم في تنظيم حال الاضطرار.
القاعدة الرابعة: “الضرورات تُقَدَّرُ بِقَدْرها”[9]
هذه هي عبارة المجلة، وفي كتب القواعد وردت بلفظ “ما أبيح للضرورة يُقَدَّر بقَدْرها”[10] ولا فرق بين العبارتين وأوردها الدبوسى في الأسرار بلفظ “الثابت بالضرورة يقدر بقَدْرها”[11]، وعند ابن تيمية “الحكم المقدر بالضرورة مُقَدَّرٌ بقَدْرها”[12] و”الحكم المقيَّدُ بالضرورة مُقدَّر بقَدْرها”[13].
ومعنى القاعدة أن المحظور الذي يباح للضرورة لا تكون إباحته مطلقة وإنما يباح من هذا المحظور ما يكفي لدفع الضرورة ورفع الحرج دون زيادة، فمن اضطر لأكل الميتة أبيح له أن يأكل منها بقدر ما يدفع الجوع المهلك، ولا يجوز له أن يبلغ بذلك مبلغ الشبع والترف.
ودليل ذلك قول الله تعالى: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة: 173)، فهنا قيد إباحة المحظور للمضطر بألا يكون باغا أوعاديا، أى بألا يتعدى في ذلك حد الضرورة، وفائدة هذه القاعدة مع قاعدة الضرورات تبيح المحظورات “التنبيه على أن ما تدعو إليه الضرورة من المحظورات إنما يرخص منه القدر الذي تندفع به الضرورة، وحسب، فإذا اضطر الإنسان لمحظور فليس له أن يتوسع في المحظور بل يقتصر منه على حد ما تندفع به الضرورة فقط”[14].
وأهم ما تنطبق عليه هذه القاعدة في زماننا هذا قضية التصريحات والبيانات والخطابات التي يضطر إليها بعض القادة السياسيين، فينبغي أن تتقدر بقدرها دون زيادة، فلا يصح أن يظل السياسيون الذين اضطروا إلى العمل السياسي من خلال النظم الموجودة، لا يصح لهم أن يظلوا ليلهم ونهارهم يصرحون بأنّ العلمانية هي مذهبهم ومشربهم ومسرحهم ومراحهم، فالأصل هو عدم التصريح بشيء من ذلك قط، فإنّ اضطروا لشيء من ذلك لم يجاوزوا حدّ الضرورة.
القاعدة الخامسة: “ما جاز لعذر بطل بزواله[15]: هذه القاعدة في قوة التقييد لقاعدة “الضرورات تبيح المحظورات” وقاعدة “الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة”؛ لأن إباحة المحظور للضرورة مقيدة بمدة قيام الضرورة[16] فإذا سقط العذر بزوال الضرورة عاد المحظور الذي أبيح للضرورة إلى مكانه، ومن أمثلة هذه القاعدة في ميدان السياسة أنّه إذا جاز بسبب العذر والضرورة التحالف مع جهة محاددة لشريعة الله أو تنتمي إلى مذهب من مذاهب البدعة مع كون التحالف معها ينطوي على كثير من المضار الشرعية التي لا يمكن تجاوزها وتفويتها إلا بارتكاب مفاسد أشد منها، فإذا زال العذر الحامل على ذلك وانقضت الضرورة الدافعة إليه بوجود بدائل سالمة من الأضرار أو توفر القوة اللازمة لمواجهة الأعداء وجب فورا إنهاء هذا التحالف والخروج منه؛ لأنّ ذلك التحالف أبيح للضرورة، والضرورة زالت فيجب أن يزول بزوالها.
الهامش
[1] مجلة الأحكام العدلية م/22، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 100، الأشباه والنظائر للسيوطى ص180، المنثور 2/24، البرهان للجوينى 2/606
[2] موسوعة القواعد الفقهية للندوى ص 1/141.
[3] القواعد الفقهية الخمس الكبرى ص 306.
[4] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 29/49.
[5] شرح القواعد الفقهية ص 209.
[6] متفق عليه أخرجه البخاري برقم2188 ج4 ص547 ومسلم برقم1539 ج10 ص140
[7] متفق عليه، رواه البخارى برقم 1841ج4 ص 82، ومسلم برقم 5/ 1179ج 8 ص 255
[8] غياث الأمم في التياث الظلم (ص: 317- 318)
[9] مجلة الأحكام العدلية م/ 22.
[10] الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 94، الأشباه والنظائر للسيوطى، المنثور للزكشى 2/320
[11] كتاب الأسرار للدبوسى ص 303
[12] مجموع الفتاوى 21/ 435.
[13]مجموع الفتاوى 12/ 353.
[14] شرح القواعد الفقهية ص87.
[15] مجلة الأحكام العدلية م/23.
[16] شرح القواعد الفقهية ص 189.