ما قيمة الغلاء بجانب نعمة الأمن؟ ما قيمة الحرية بجانب نعمة الاستقرار؟ ما قيمة الكرامة بجانب نعمة السلامة؟ ما قيمة العيش الكريم بجانب نعمة ألا نصير مثل سوريا والعراق..؟
أسئلة تثار للتخيير، تخيير الإجبار لا تخيير الاختيار! هكذا تصنع الدكتاتورية المتسلطة من خلال أذرعها؛ فما دخل رجال الدين والفتوى في هذا الشأن؟ لماذا يصرون على أن يدسوا أنوفهم في شأن كهذا؟ وهل وظيفة الخطاب الديني هي تكريس الاستبداد والتأسيس لاستحمار العباد؟ أليسوا بهذا السلوك المنحرف يعطون الحق لمن يصف الدين -ظلما- بأنه أفيون الشعوب؟!
شنشنة نعرفها من أخزم
هذا السلوك المنحرف ليس جديدا في سياسة المستبدين الفاسدين، ولا بدعا من الممارسات الإعلامية لدى أبواق الطغاة الضالعين في الإجرام، فلكم عانت الإنسانية في أزمنة الثورات من ذلك التخيير الخطير، فهناك على شواطئ الإدرياتيكي في فلورنسا وميلانو وفينيسيا ومدن مقاطعة لمبارديا بزغت شمس الثورات المعاصرة، وخُيِّر الثوار يومها بين الحرية التي ينشدونها والأمن الذي انتزعه الملك الطاغية من قلوب أبناء الشعب كما ينتزع السفود من الصوف المبلل بالماء؛ مما كان له أثره البالغ المتمثل في انفضاض الجماهير عن الثوار، لكن الثورة لم تمت؛ لأنها ليس من طبيعتها أن تموت، فلقد نهضت بعد ذلك من كبوتها وتفجرت في إنجلترا ثم في أمريكا ففرنسا، ونال الناس حرياتهم ومعها أمنهم وسلامتهم وعيشهم الكريم؛ ولم يجد شيئا تحالف الطغاة مع رجال الدين، وكانت الصيحة التي دوت في سماء الأحداث الكبار: اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس.
حقوق الإنسان لا مساومة عليها
ليس من حقهم أن يساومونا ببعض حقوقنا على بعض حقوقنا؛ فجميع حقوقنا ليست موضعا للمساومة، الحرية والأمن والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية والعيش الكريم لا مجال للتنازل عن شيء منها؛ لأنها حقوق كفلها الله تعالى لعباده، وجعلهم فيها متساوين، والله تبارك وتعالى عندما قال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} عندما قال هذا القول كان يضع الأساس الذي بنيت عليه جميع الأحكام الشرعية التي تضمن للإنسان حقوقه كافة، وعندما قال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} كان يخاطب بها الحكام قبل أي أحد آخر، ليلزمهم بأداء الأمانات الكبرى لمستحقيها، والأمانات الكبرى المنوطة بالحكام التي نحن أهلها تشمل الحرية والكرامة والعدالة إلى جانب الأمن والاستقرار والضمان الاجتماعي والعيش الكريم، هذه هي حقوق كل إنسان؛ فمن رأى من الحكام أنه غير قادر على تحقيقها فليرحل ليأتي من يحققها مجتمعة؛ فإن الذي شرعها وفرضها ضمن إمكانية تحقيقها جميعا لمن رام ذلك وكان مستقيما على منهج الله غير باغ ولا عاد.
ما بال رجال الدين؟
فإذا كان الأمر على هذا النحو في شريعة الله وفي فطرة الإنسانية فما بال رجال الدين يزاحمون الإعلام الرديء في التكريس لقسمة ضيزى، يظلم فيها الإنسان على كل حال؛ إن تمسك بحريته وبحقه في العيش الكريم فقد أمنه، وإن رضي بالسلامة رغبة في أمن واستقرار يُزجَى إليه منقوصا فقد أعز ما يتمسك به الإنسان؛ لماذا يفعلون هذا؟!
ألم يكن من اللائق بهم أن يعملوا بقول الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}؛ وأن يفهموا عن الله مراده في منع المنكر كله، ويفقهوا كما فقه الكبار أن المنكر الأكبر الذي يرعى كل المناكر هو عدوان الطغاة على حريات الناس وحقوقهم واستعبادهم للعباد على نحو يصرفهم عن جوهر دينهم إلى طقوس شكلية لا تعدو أن تكون مجرد تنفيس للفطرة!
هل مر عليهم يوما كتاب من الكتب الإسلامية التي تنصح الحكام بالاستقامة في معاملة الرعية، مثل كتاب النصيحة للتبريزي، والتبر المسبوك للغزالي، وحسن السلوك للموصلي، أم أنهم يأخذون من علمائنا فقه الحيض والنفاس، وفيما يتعلق بالعلاقة بين الحاكم والمحكوم يأخذون فقه أوغسطين؟!
الوعي هو الحل
لا حل إلا بالوعي الناضج، ليس الوعي المستمد من الواقع وحسب، وإنما الوعي الصحيح الذي يستمد غذاءه من مصدرين، الأول: الشرع الصحيح وليس الشرع المبدل بأيدي المارقين الذين يمتطون صهوة الخطاب الديني، والثاني: الواقع الصريح الذي يتبدى بأحداثه بعيدا عن تزوير الإعلام الرديء. ألا إننا بحاجة إلى إنضاج الوعي لدى شعوبنا، وإنها لأهل لتلقي الخطاب الصادق والتوجيه النافع، فكم من مرة تصحو من غفوتها وتميط القذى عن عينها وتمضي في طريقها مطالبة بحقوقها، غير آبهة بإرجاف المرجفين المثبطين، ولا بتزيين السحرة المزورين.
وإن أهم ما يبعث الهمة ويرسي الثقة والاعتداد ذلك المصدر الذي نبعت منه كل حقوق الإنسان. إن خالق هذا الإنسان هو وحده مصدر حقوقه وحرياته، وإذا كانت الحضارة المعاصرة قد سلمت بذلك على نحو ما باعتمادها على القانون الطبيعي الذي تنسبه للفطرة؛ فإن الإسلام قد عد الفطرة أكبر حليف للشريعة؛ وعليه فإن حقوق الإنسان وحريات الشعوب جاءت في شريعة الله تعالى ملبية لهذه الفطرة التي فطر الله الناس عليها: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}.