ماذا لو خضع “أحمد الشرع” للضغوط الأمريكية والإقليمية والدولية؟

بقلم د. عطية عدلان

من المؤكد أنّ أمريكا لم تتخذ قرارها برفع العقوبات عن سوريا لكونها مُتَيَّمَةً بأحمد الشرع أو لكونه قد شَغَفَهَا حُبًّا، ومن المؤكد كذلك أنّ مسرحية رفع العقوبات هذه لا غرض منها إلا الابتزاز الرخيص؛ لذلك فمن المتوقع أن يكون هناك تنازلاتٌ على نحو ما، وأن يكون هناك اتفاقاتٌ قد أبرمت ولم يتم الإعلان عنها، وفي ظلّ الإكراهات السياسية التي تفرض نفسها لا يصح رفض التنازلات جملة، ولا ينتظر من السياسيين أن يكونوا دائمًا متخشبين عند المبادئ لا يبرحونها إلا واهم يعيش في الخيال الطوباوي بعيدًا عن واقع الحياة، وإنّما الفقه السليم والفهم القويم والحَدْسُ الدقيق الصائب والمهارةُ السياسية الفائقة والنجاح في إدارة الصراع، كلّ ذلك يتجه صوب ترتيب بنود الأجندة الثورية، وتحديد ما الذي يسوغ التنازل عنه وما الذي لا يصح الاقتراب منه، وعندما يكون لدى الثائرين المجاهدين مشروع واضح المعالم، أو يكون للأمة مشروعها الذي يرتبط العاملون للإسلام بالجمل الثابتة منه؛ لن يكون هناك اضطراب أو ارتباك.

هل للضرورة حدٌّ؟ وهل للإكراه غاية؟

ما من موضع في كتاب الله تعالى يذكر فيه الإكراه أو تذكر فيه الضرورة إلا ويذكر قيد أو قيود؛ مما يدلّ على أنّ الأمر فيهما ليس على إطلاقه، ففي حال وقوع الإكراه الملجئ على النطق بكلمة الكفر يوضع شرط اطمئنان القلب بكلمة التوحيد: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَاّ مَنْ ‌أُكْرِهَ ‌وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (النحل: ١٠٦)، وهو قيد يحصر التنازل في أقوال – أو حتى أفعال – بلا مضمون حقيقيّ، ففي النهاية عمّار بن ياسر استمرّ مسلمًا منغمسًا إلى لُبّ نخاعه في الوحدانية، وفي حال الضرورة الملجئة توضع جملة من القيود تجعل الضرورة محصورة زمانًا وقدرًا: (فَمَنِ اضْطُرَّ ‌فِي ‌مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة: ٣).

    وهذا يعني أنّ الإكراه الملجئ والضرورة الملجئة إذا وضعا في إطارهما الصحيح فلن يتضرّر بهما أصل الحقّ، وأنّ اللجوء إلى الرخصة والمسارعة بهجر العزيمة متى ما أدّى إلى انكسار المسار وانطماس الحقّ وازدهار الباطل فهناك بلا شك خلل في الأمر برمّته، ومن هنا يتبين لنا أنّ التنازلات إذا طالت الثوابت وأدّت إلى انعكاس المسار، وكانت مناقضة تمام المناقضة للأصول التي قام عليها التغيير بالثورة أو الجهاد أو حتى الدعوة؛ فإنّها لا تكون سائغة ولا مقبولة بل ولا جائزة شرعًا، أمّا إذا كانت من قبيل النطق بكلمة الكفر مع بقاء القلب عامرًا بالإيمان، ومن قبيل أكل الميتة في المسغبة بالقدر الذي يمسك الرمق وحسب؛ فإنّها تقبل وتكون بمثابة فدية تدفع للحفاظ على الثوابت التي نتمسك بها ولا نفرط فيها. 

ترتيب الأجندة الثورية وتقنيات المرحلية

إذا كنّا قد قررنا من قبل في مقالنا عن شرعية أحمد الشرع وحكومته أنّ التدرج والمرحلية من ضرورات المرحلة التي تمرّ بها سوريا، وأنّهما من الأمور الجائزة في حال الاضطرار لا في حال الاختيار، بشروط منها عدم التسويف ومنها أن توضع خطة للتدرج يتم الالتزام به قدر الطاقة، فإنّ هذا التدرج وهذه المرحلية يلزم لهما تقنيات تنفيذية، من أهم هذه التقنيات الاهتمام الكبير ببناء مؤسسات المجتمع، بما فيها المؤسسات الدينية من أوقاف ودعوة وتربية وإفتاء وبحث علمي وغير ذلك، وبما فيها – وهذا غاية في الأهمية – المؤسسات الشورية غير المنخرطة في نظام الدولة، تلك التي يمكن التدرج بها لتتحول بمرور الوقت إلى مؤسسة أهل الحلّ والعقد في الدولة المسلمة، ومنها تقديم أحكام العدالة الاجتماعية وأحكام العدالة الانتقالية الناجزة، والعناية عند وضع الدستور بالمواد التي تحقق استقلال القضاء والفصل بين السلطات والتداول السلميّ للسلطة، ومنها تعديل قانون الانتخابات ليقترب ولو قليلًا من أحكام البيعة، وهكذا ..

    أمّا التقنية الأهم في عملية التدرج والمرحلية فهي الترتيب الصحيح لأجندة المبادئ والأهداف؛ بحيث تبدأ التنازلات الضرورية من أسفل القائمة، فلا يتقدم شيء على الثوابت التي بضياعها ينشأ السؤال الطبيعيّ: فلماذا إِذَنْ قامت الثورةُ ولماذا مضى الجهاد، وما الذي بقي مما مات الناس من أجله؟ وكذلك لا يصح أن تتأخر الثوابت التي إن تم التنازل عنها لا يمكن استدراكها، ومثلها الثوابت التي ينشأ عن تجاوزها السؤال المنطقيّ: وما الفرق إذن بين الحاضر والماضي؟ وهكذا ترتب الأجنده وبهذه الفلسفة يتم تقديم ما يجب تقديمه وتأخير ما يجب تأخيره؛ لتبدأ التنازلات من أسفل لا من أعلى، ومن المؤخرة لا من المقدمة.

لماذا يرفض المسلمون التطبيع؟

التطبيع خطٌّ أحمر، وإذا لم يكن التطبيع خطًا لا يجوز الاقتراب منه فما الفرق بين نظام أتى بعد ثورة وجهاد وأنظمة قامت عليها الثورة وعصف بها الجهاد؟ إنّ التطبيع ليس مجرد اتفاقية لوقف الاشتباك، ليس مجرد هدنة، ولو كان كذلك لأمكن القول بالجواز والصحة إذا توافرت الشروط الأربعة التي نصّ عليها القائلون بالجواز والصحة وهم الأئمة الأربعة وكافّة علماء الأمصار، ولو أنّ أحمد الشرع أقرّ اتفاقية وقف الاشتباك التي أبرمت من قبل والتزم بها، أو عقد مع الصهاينة عقد هدنة لكونه غير قادر على مواجهتهم اليوم؛ لأمكن القول بالجواز والصحة، وعندئذ لم يجز لأحد أن ينتقص من شرعيته، وإن جاز النقد والتعبير عن الرأي، أمّا التطبيع فأمر آخر مختلف، إنّ التطبيع هو تحويل العلاقة مع الكيان الصهيونيّ المحتلّ إلى علاقة طبيعية كالعلاقة القائمة بين الدول غير المتحاربة، وهو يبنى على معاهدات سلام تشتمل بنودها على ما يضمن اطراد مسار التطبيع، كجميع معاهدات السلام التي أبرمت بين الكيان وكثير من الدول العربية، بدءًا من كامب ديفيد ومرورًا بمدريد ووادي عربة وأوسلو وانتهاء بالعقد الإبراهيمي وما تلاه من عقود.

    ولقد رأى الناس بأنفسهم الآثار الضارة للتطبيع في مصر وفلسطين والأردن، وعرفوا كيف تغلغل الاحتلال على ظهر هذا التطبيع إلى كل المفاصل المؤثرة في الدول، كيف اندسّت اليد الصهيونية في التعليم والإعلام والسياسة والاقتصاد والصحة والزراعة، وكيف ترتب على التطبيع تحييد دول الطوق وانفراد إسرائيل بفلسطين، وكيف تحول النظام العربيّ الذي لم يكن له من الأصل شرعية إلى نظام شرق أوسطيّ تقوده إسرائيل، وهذا الذي رآه الناس كان أحد الروافد الكبرى التي غذّت الغضب وأسهمت في تكوين العقيدة الثورية؛ فكيف يقبل من حكومة جاءت سابحة فوق ثبج ثورة عارمة قدمت مئات الآلاف من الشهداء أن تفعل الشيء نفسه الذي من أجله قامت الثورة ولأجله استشهد من استشهد وشرد من شرد؟! ومن يضمن للناس عندئذ ألا يتحول القائد الذي حرّر البلاد إلى طاغية جبار يحذو حذو أولئك الذين أحاطوا به وأدخلوه معهم في الحظيرة التي يتلبطون في طينتها النجسة منذ عقود طويلة؟ فإن قالوا: إنّها ضرورة، قلنا الضرورة تُقدَّر بقدْرها، وقدرها الذي لا مزيد عليه هو الهدنة ووقف القتال والكفّ عن المواجهة العسكرية، وقلنا كذلك: إنّ الضرورة مهما بلغت لا يمكن أن تهدم أصلًا عريقًا، لا يمكن قَدَرًا ولا شرعًا.

احذر قاصمة الظهر: ترحيل المجاهدين

أعيذك بالله أن تفعلها، أو حتى تفكر ولو مجرد تفكير في فعلها، لأنّك إن طردت هذه الثلة المباركة أو هجّرتها أو قمت بتفكيكها وتذويبها في الحياة المدنية، أو ارتكبت من التصرفات ما يمكن أن ينهي الحالة الثورية الجهادية ويصفّي هذا المكون الصلب؛ فلن تكون غادرًا فقط، ولن تكون ظالمًا جبّارً طاغيًا وحسب، وإنّما ستكون مثل ذلك القائد الرئيس الزعيم الذي أعدم صواريخه التي كان العدو يخشاها، وبمجرّد أن فرغ منها كانت الطائرات تدكّ بغداد بالقنابل العنقودية المشبعة باليورانيوم، إنّك اليوم لا تملك من أوراق الضغط سوى هذه الورقة، وإنّك بدونها لن تكون أحمد الشرع ولا محمد الجولاني، لن تكون رئيسًا لدولة ولا زعيما لتنظيم جهاديّ، فإيّاك إيّاك أن يذهب عقلك إلى خيار كهذا فتتخلى عنك للأبد عناية الله، وخذْ عبرة من واقعة لم تقع، ولم يتحرك رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوها قدر ما تقطع سلحفاة عجوز في مدّة أقلّ من الثانية، وإنّما يُقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد يكون خطر بباله إمكانية حدوث ذلك، قالوا: قد يكون وقد لا يكون، المهم أنّه بمجرد أن طُرح اقتراح من الكفار مفاده أن يطرد الرسول الضعفاء والعبيد من مجلسه لكي يجالسوه ويستمعوا منه، نزل على الفور قول الله تعالى من سورة الكهف: (وَاصْبِرْ ‌نَفْسَكَ ‌مَعَ ‌الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (الكهف: 28)، ولم يكن هؤلاء الضعفاء مقاتلين يتقوّى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنّما كانوا مؤمنين وحسب.

المساحات المرنة والساحات الرحبة

هناك مساحات مرنة وساحات رحبة ومفردات تقبل التقديم والتأخير وتخضع للتحريك صوب الأمام أو جهة الخلف، فعامل من شئت من مؤمنين وكفّار، وصافح من شئت من رجال أو نساء، وصرّح بما شئت من التصريحات التي فيها المداراة والمواربة ما لم تصدم أصلًا شرعيًّا أو تطمس معلمًا رئيسيًّا من معالم المشروع الإسلاميّ، وارتد ما شئت من البلدان وفاوض وقايض وتقدم وتأخر وناور وداور، كلّ ذلك مباح متاح مالم ترتكب إثمًا صريحًا، بل إنّ الشريعة كما أسلفنا في مقال سابق تتسامح وتسمح بالتدرج في تطبيقها بشروطه التي بيّنّاها، والنظام السياسي الإسلاميّ يقبل في حال الاضطرار ما لا يقبل في حال الاختيار، كلّ هذا لا إشكال فيه، أمّا الثوابت ومعها الأمور التي يمكن أن تعرقل المراحل القادمة في المشروع الإسلاميّ فلا يجوز الاقتراب من تخومها، واعلم في النهاية أنّ الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.

وأخيرًا فإنّني أؤكد على الحقيقة التي لا يصح تجاهلها، وهي الحقيقة التي بيّنّاها في مقال سابق (سؤال وجواب) وهي أنّ الحكومة السورية الحالية وعلى رأسها القائد أحمد الشرع حكومة شرعية للمرحلة الانتقالية، ومن ثم يجب نصرتها والدفاع عنها، ويحرم الخروج عليها، والله المستعان.