الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
بعد أن غاص على مدى سبعة أعوام في دماء الأبرياء الأنقياء الأتقياء، أَخْرجَ رأسه الكئيب الكذوب من تحت الأشلاء، ورفع عقيرته المشئومة بالنداء: ألا يا أيها المواطنون الأعزاء: إنّ صلواتكم في تلكم المساجد ذهبت هباء، ولا تلوموا في ذلك أحداً من قاطني الأرض أو ساكني السماء، بل لوموا أنفسكم أيها الأغبياء؛ لأنكم لم تنتبهوا أنتم ولا أئمتكم الجهلاء أنكم منذ عقود تصلون في أرض مغصوبة بلا مراء.
هكذا قرَّرَ (المفتي!) وحذّر ثم كرَّرَ وأنذر؛ ليوقن القاصي والداني من ساكني هذا الوطن المنكوب أنّ أبرهة العصر إنّما يفعل ما يفعل من هدم المنازل والمساجد؛ ليصحح المسار ويقوم الاعوجاج، وأنّ على المواطنين أن يشكروه ولا يكفروه، وأنّ عليه هو أن يواصل المسير في التخريب والتدمير، وكأنّ المفتى لم يشبع من التصديق على قرارات الإعدام لخيرة شباب الأمة فانثنى يوقع على قرارات إعدام المساجد.
يا أيها الرجل المثير للدهشة والعجب: أستحلفك بالله الذي علمك الشريعة والسنة فاتخذت أحكامها مطايا لمآربك الدنيئة ومطامعك الهابطة أن تخبرنا: أين وجدت فيما تعلمت أنّ المساجد التي بنيت في أرض الله لا تقبل فيها الصلاة بدعوى أنّها مغصوبة؟ في أيّ مذهب من مذاهب أهل القبلة؟ في أيّ ديوان من دوواين الملة؟ أين وجدت هذا القول الشاذ الذي بلغ من شذوذه حدّ النشاز المثير للاشمئزاز؟!
أظنك سحبت الحكم بتحريم الصلاة في الأرض المغصوبة على هذه الحالة، فما أبعدك عن الفقه إذن! وما أبعد النجعة التي انتجعتها والشقة التي اقحمت نفسك الصغيرة الضئيلة فيها، أجل .. إنّ العلماء قد قالوا بحرمة الصلاة في الأرض المغصوبة؛ للحديث، وكذلك الصلاة في الثوب المغصوب، وإن اختلفوا بعد ذلك في صحتها فقال الجمهور منهم المالكية والشافعية بأنّها صحيحة ولكن يلزم المصلي إثم الغَصْب، وقال البعض بفسادها؛ لكنّ هذه مسألة وتلك أخرى، فقد يغصب الرجل أرضا فإذا حضرته الصلاة صلي فيها، وقد يسرق الرجل ثوبا، ومع ذلك قد يصلي في هذا الثوب المغصوب، أمّا أن يغصب المسلمون “أرضا مملوكة للدولة” ويبنوا فيها مسجداً؛ فتحرم صلاتهم فيه لأجل الغصب؛ ومن ثم يجب أن تهدمه الدولة المالكة للأرض! فتلك مسألة (افتكاسية) لا وجود لها إلا في رأسين لا يدرى المصريون أيهما أغبى من الآخر: السيسي ومفتى السيسي.
إنّ الأرض التي بنيت عليها المساجد التي يسارعون في هدمها، ليست مغصوبة؛ لأنّها ليست ملكاً لأحد من المسملين على التعيين، وإنّما هي أموال المسلمين العامّة وأراضي المسلمين العامّة، وليس للدولة – أو النظام الحاكم – إلا صفة الوكالة والنيابة عن الأمة في التصرف فيها، وأول وأهم ما تنفق فيه هذه الأموال والأراضي هو كل ما يخدم دين الله وفي مقدمة ذلك المساجد التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فإذا اجتهد المسلمون وبنوا مسجدا ولم يعترضهم الوكيل المفوض بتدبيرها، ثم أقيمت فيه الصلاة لم يكن لأحد من الخلق هدمه حاكماً كان أو محكوما، فإن رأت الدولة أن تهدمة لمصلحة عامة لم يكن لها ذلك إلا بأن تبني للمسلمين غيره قبل هدمه حتى لا تنقطع الصلاة في مساجد أَذِنَ اللهُ أن تُرْفَعَ ويُذْكَرَ فيها اسمه، وإن رأت الدولة أن تحاسب من قاموا بالبناء دون تراخيص لافتئاتهم على الشأن العام فهذه مسألة يُنظر فيها وتخضع للاجتهاد، أمّا أن تُهدم مساجد المسلمين التي أقيمت فيها الصلوات عقودا بهذه الطريقة الوحشية وبهذا الشبق المنبئ عن زندقة فهذا لا يُشَمُّ منه إلا ريح ردة وفتنة.
ولا يقال هنا: إنّها أملاك الدولة؛ إذْ على فرض صحة ذلك – وليس بصحيح قطعاً – أليست الدولة بما تملكه ملكاً للشعب؟! بل أليست الدولة وما تحت يدها من أرض وما يدب على هذه الأرض من خلق ملكاً لله تعالى الذي خلقنا لعبادته واستعمرنا في الأرض واستخلفنا على ما فيها؟!
لم نتعرض للطرف الذي يقوم بالهدم، لم نتحدث عن وضعه من حيث هو بالنسبة لشعب مصر، فلابد للمفتي من استصحاب الواقع الذي يفتي فيه؛ لأنّ الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فهذا الذي يسميه المفتي (الدولة) لص مغتصب للدولة، والحقيقة أنّ بلادنا هي المغصوبة من قبل هؤلاء (البلطجية) الغاصبين المحتلين لبلادنا بالوكالة، وإنّ ما يمارسونه من هدم للبيوت والمساجد إنّما هو بغي ممن لا حق لهم ولا مدخل لهم في شئون البلاد، هذه هي الحقيقة التي يفر منها الكثيرون حتى ممن ينتسبون للعلم والدعوة والعمل للإسلام.
والوضع الطبيعيّ للأمة الإسلامية إذا ذاع مثل هذا العدوان وشاع أن تتصدى له مدافعة عن بيوت الله تعالى؛ وهذا معنى قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ) (البقرة: 114)، فالراجح في تفسير قوله تعالى: (ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين) أنّ هذا أمر وتكليف وليس خبراً، والمعنى: ما كان ينبغي أن تتركوهم يدخلوها إلا خائفين، وهو مثل قول الله تعالى في المسجد الحرام: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) (آل عمران: 97)، أي: يجب عليكم أن تؤمنوا من دخل المسجد الحرام، ولعل مقصد الإبقاء على بيوت الله والحفاظ عليها كان أول المقاصد التي ذكرها القرآن الكريم كغاية للجهاد والدفع، حيث قال سبحانه: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا) (الحج: 40).
فيا أيها المفتون اتقوا الله في دين الله (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 42)، ولا تغتروا بهذه الحياة الدنيا؛ واعلموا إنْ كنتم لا تعلمون: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ) (الحديد: 20).