ما الرسائل التي أراد نتنياهو والعصابة اليمينية إيصالها باقتحامهم الأخير للمسجد الأقصى بهذه الوحشية دون مبرر أو مسوغ؟ أكان يغازل تيار اليمين المتطرف الذي جاء به للحكم؛ إلتماسًا لمساندته في صراعه مع التيار العلمانيّ، الذي خرج إلى الشوارع محتجًّا على سياسات نتنياهو المهددة للهوية العلمانية؟ أم إنّها محاولة لكسر الجمود في الموقف الأمريكي الممتعض من عزل وزير الدفاع ومن تصرفات “بن غفير” ولكن بطريقة نتنياهو التي تتخذ من الغشم مدخلًا للدبلوماسية؟ أم إنّها رسالة للمقاومة محملة بحشد من الإيحاءات بعضها وقائيٌّ وبعضها هجوميّ عدوانيّ؟ أيًّا ما كانت فحوى هذه الرسائل فإنّ العدوان على الأقصى مستمر، وليس من المتوقع أن يهدأ، ولا سيما مع تنامي الصعود اليمينيّ.
ليسوا وحدهم
“أنا صهيونيٌّ وليس على المرء أن يكون يهوديًّا ليكون صهيونيًّا” كلمة قالها “جو بايدن” ليؤكد أنّه لم يأت بعد “دونالد ترمب” لينقض ما بناه في “صفقة القرن”، فالصهيونية ليست حكرًا على اليهود ومن وافقهم من اليمينيين الإنجيليين، بل هي تشمل كل من سعى ويسعى لإعادة مجد إسرائيل على جبل صهيون، هكذا عرّفتها دائرة المعارف البريطانية، لذلك فإنّ أمريكا ستظل أبدًا -مهما تقلبت فيها الحكومات بين جمهورية وديمقراطية- داعمةً للكيان الصهيونيّ، وسيظل هذا الكيان ضاغطًا ومستخدمًا سياسة فرض الأمر الواقع، غير آبِهٍ بتصريحات الرؤساء التي تطفو دومًا كَمَا يطفو الزَّبد فوق ثبج الماء، وسيظل الدعم الغربيّ ومعه الدعم العربيّ مستمرًّا ليكون لإسرائيل بمثابة حبال الإنقاذ التي أشار إليها القرآن في هذه الآية: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ} (آل عمران: 112)، فلا أملَ -بعد الله- إلا في استمرار المقاومة والرباط إلى أن يأذن الله بميلاد مشروع الأمة الكبير الشامل، كما بشر الحديث: “لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله”.
وماذا سوى تلك الرسائل؟
منذ زمن بعيد والإسرائيليون يخططون لهدم المسجد الأقصى وبناء “هيكل سليمان” على أنقاضه، وحاولوا عبر الحفريات التي قاموا بها على مدى سنين أن يثبتوا وجود آثار لهذا الهيكل المزعوم تحت المسجد الأقصى، لكنّ محاولاتهم باءت بالفشل الذريع، ولشدة ما فوجئوا به من انهيار النبوءات وتحطم التكهنات تحت مطارق البحث العلميّ؛ لم يستطع علماء الآثار أن يخفوا ولو قدرًا ضئيلًا من الحقيقة المُرّة، فها هو “إسرائيل فنكلشتاين” الملقب عندهم بأبي الآثار يؤكد لصحيفة “جيروزاليم بوست” أنّه لا وجود لأيّ آثار تدعم الروايات التاريخية، ويأتي بعده عالم الآثار الإسرائيلي “رافاييل غرينبرغ” المحاضر بجامعة تل أبيب؛ ليزيد التأكيد بنفيه وجود أي آثار للهيكل تحت المسجد الأقصى، ثمّ يأتي عالم الآثار “يوني مزراحي” ليقول مستنكرًا: “إنهم يواصلون التنقيب لأنَّ هذا التنقيب مدفوع بأجندة سياسية”.
وجاءت الخطة البديلة لتقام لها (بروفة) في المسجد الإبراهيمي، قبل تنفيذها في المسجد الأقصى المبارك بسنوات عديدة، وهي خطة التقسيم الزماني والمكاني، إذ يرى الصهاينة أنّ على المسلمين أن يغادروا الأقصى من الساعة 7:30 حتى 11:00 صباحًا، ثم من الساعة 1:30 حتى 2:30 ظهرًا، إضافة إلى فترة أخرى بعد العصر، بغرض تخصيص هذه الأوقات لليهود، والسماح لهم بأداء 3 صلوات في اليوم، ويتعللون بأنه لا يوجد صلاة للمسلمين في تلك الأوقات، ويرون كذلك وجوب إخلاء المسجد الأقصى لليهود في أعيادهم، التي تقارب 100 يوم في السنة، إضافة إلى أيام السبت التي يجب أن تُترك لليهود كاملة، هذا هو التقسيم الزماني، أمّا التقسيم المكاني فيعني تخصيص أماكن بعينها في المسجد الأقصى -الذي تبلغ مساحته 144 دونمًا- لكل طرف من الطرفين، فهو يهدف إلى تخصيص أجزاء ومساحات من المسجد الأقصى للكيان الإسرائيلي يقتطعها لتكون معابد يؤدي اليهود صلواتهم فيها، تمهيدًا للاستيلاء الكامل على بيت المقدس ومنع المسلمين منه، ولأجل الوصول إلى هذه الغاية قام الاحتلال خلال الفترات السابقة بتحديد مسارات خاصة باليهود تمهيدًا للتقسيم المكاني، الذي يشمل كذلك بسط السيطرة بقوة السلاح على الساحات الخارجية للأقصى، ومن المؤكد أنّ الاقتحامات الأخيرة للمسجد تأتي في سياق المحاولات اليمينية لفرض واقع يمهد لهذا التقسيم الخبيث، وهذا ما يحمل نتنياهو على الصمود في وجه الشارع العلمانيّ أملًا في دعم اليمين له.
الاستعجال والارتجال لتجاوز العقبات
يعارض غالبية الحاخامات الأرثوذكس دخول جبل الهيكل، وموقف مركز “حاراف” الديني ” -وهو أحد أهمّ المراكز الصُّهيونيَّة الدينيَّة لتعليم الشريعة اليهوديَّة- هو الرفض البات لصلاة اليهود في المسجد الأقصى في الوقت الراهن، بل إنّ “الحاخاميَّة الكبرى في إسرائيل” -وهي السُّلطة التشريعيَّة العليا في دولة الاحتلال- تعارِض بما يقارب الإجماع الصلاة اليهوديَّة في الأقصى؛ لكون اليهود غير طاهرين لدخول جبل الهيكل، ويتطلَّب التطهُّر -وفق حُكم الشريعة اليهوديَّة- الاغتسال بما يُطلَق عليه “ماء الخطيئة”، وهو عبارة عن ماء عذب مخلوط برماد بقرة حمراء (لا شِيَةَ فيها)، لكنْ في خضمّ المعارَضة الدينيَّة اليهوديَّة لاتفاقيَّة أوسلو، أصدر “مجلس يشا” الحاخامي الذي يُمثل حركة المستوطنين اليهود فتوى تبيح لكافَّة الحاخامات غير المعارضين لدخول جبل الهيكل بالذهاب إليه لإرشاد جماعات المصلّين، وبرَّر موقفه ذلك بأنَّ الغياب اليهودي في جبل الهيكل قد يغري السياسيين لاحقًا بالتنازل عنه ونقْل السيادة عليه إلى السُّلطة الفلسطينيَّة، فكان في هذه الفتوى مخرج لحكومة الليكود لتتعجل تحقيق الحلم الكبير، ولا سيما بعد أن انتهت الحُمَّى التي رافقت رأس الألفية الثالثة دون أن تقدّم لهم مستندًا يتكئون عليه، فلا خيمة ولا شمعدان ولا بقرة حمراء؛ لذلك فالكيان الصهيونيّ ماضٍ في طريقه بأجندته السياسية اليمينية.
وإن عدتم عدنا
ورغم عدم تصريح الآيات من سورة الإسراء بوقت العلو الثاني لبني إسرائيل، ورغم اختلاف المفسرين في ذلك؛ فإن السنة الإلهية التي كشفت عنها الآية: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} تبقى ماضية، والله غالب على أمره.
المصدر : الجزيرة مباشر