مشروع أردوغان والمزايدات المتعاكسة

ليس خليفةً للمسلمين ولم يدَّع ذلك، وليس ممثلاً للمشروع الإسلاميّ الذي يرمي لاستعادة الخلافة ولم يزْعُم ذلك، لكنَّ البلوغَ إلى رُبُعِ ما بلغه بِبَلَدِهِ كان ولا يزال حلم الشعوب العربية جمعاء، بما فيها من يمثلون المشروع الإسلاميّ الرَّامي إلى استعادة الخلافة، فمن أين نشأت المزايدات المتقابلة إلى حدِّ التضادِّ الحادّ؟ أم إنَّها إحدى الإشكاليات الفكرية، التي تولَّدت عن حمى الجدل بين المنتسبين للفكر والتنظير، والتي سكنت مرابضهم، رغم أنَّها لم تجد لها في عقول البسطاء الحنفاء وطاءً تعتليه ولا غطاءً ترتديه.

ولقد شهدت بنفسي صورة لمزايدة هي الأبسط بين كل أنواع المزايدات، والأكثر سذاجة وسطحية، وذلك عندما قمنا في رابطة الأكاديميين العرب بدعوة مجموعة من العلماء للمشاركة في مهرجان (شكرا تركيا) وكانت المفاجأة أنَّ المهرجان انقلب بغير إرادة منَّا ولا تدبير إلى ما يشبه سقيفة بني ساعدة، وإذا باسطنبول تعود (الآستانة) يتوسطها الباب العالي، يطل من شرفته خليفة المسلمين (أردوغان) على الرعية المنْبَثَّة في شرق الأرض وغربها؛ لنصبح في صبيحة اليوم التالي مادة للإعلام المعارض، الذي استثمرها ووجها في ممارسة الإحراج والابتزاز لسلطة البلاد!!

قلت إنَّ الرجل ليس خليفة للمسلمين، وليس سلطاناً لدولة إسلامية تطبق الشريعة، وهذا لا يعيبه؛ إذ ليس مكلفاً به ولا يستطيعه، ومن ذا يملك تكليف العباد بما لا يُستطاع وقد رفعه الله عنهم بقوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة 286)، والوُسْعُ هنا لا يُنال بمجرد اعتلاء سُدَّة الحكم؛ حتى يمتهد السبيل داخليا ودولياً، وحتى تتهيأ الأرض تربويا وفكريا واجتماعياً وسياسياً وأمنياً، ودون ذلك بذل المجهود عبر السنين والعقود، لكن إلى أن يحدث ذلك ينبغي أن نعطي كل وضع وصفه اللائق به والمناسب له، فهذا حاكم عادل قوَّام على مصالح شعبه، ومتعاطف مع قضايا أمته، لا يدخر وسعاً في جلب الخير، ولا يألو جهدا في دفع الشر، وهذا يكفيه، وليتنا بعد كل الدماء التي بذلناها في الربيع العربيّ كله ظفرنا بمثله أو أقل في قطر واحد من أقطار الربيع العربيّ؛ إذن لتغيرت خريطة المنطقة برمتها.

تلك كانت مزايدة على أردوغان نفسه وعلى حكمه ومشروعه، وهي مزايدة برغم بساطتها وسذاجتها خطيرة، هي أشبه ما تكون بذَبِّ الذبابة عن  وجه الصديق بحجر ضخم عتيق، أمَّا مشروع أردوغان وحزبه فهو غاية في البساطة والتلقائية، وفي الانسجام التام مع المرحلة التي تمر بها الأمَّة، فغاية ما تحلم به الشعوب وكذلك غاية ما يتمناه أرباب الهمم العالية الساعين إلى التمكين للإسلام هو الحرية والاستقلال والعيش الكريم؛ هذه الثلاثة هي مكونات المناخ المناسب لنبتة الخير؛ وهذا هو مشروع الرجل، وحسبه هذا، ولقد بلغ منه مبلغا كبيرا رغم العقبات والعقابيل، فاللهم أتمَّ عليه وعلى بلاده هذه النعمة، و(العقبى عندنا في المسرَّات بعد نجاح الثورات).

لكن المزايدة المقابلة لها هي الأكثر خطراً والأعظم ضرراً، المزايدة على الإسلام نفسه، فما أكثر الذين يبكون الشريعة والخلافة، ويبالغون في بكائهم عليها كنائحة مستأجرة بَذَّت كل الثكالى، ونَعِيقُهم بالنهار ونَقِيقُهم بالأسحار: “أردوغان لا يطبق الشريعة” “أردوغان يحكم بالعلمانية” “أردوغان يسمح للعاهرات بممارسة الدعارة” “أردوغان يتعامل مع الروس والأمريكان” وعمداً يغضون الطرف عن النقلة البعيدة التي تتضح جليا بمجرد تقليب النظر بين صورة المساجد قبل عام ألفين وبعد عام ألفين وعشرة، وعمداً يتجاهلون التحديات والمعضلات التي جعلته يمضي في طريقه على صراط أدق من الشعرة وأحد من السيف ومن حوله كلاليب الغرب والشرق تنهشه من يمينه وشماله!!

إنَّ العلمانية لم تكن من صنع يديه ولا من نسج أنامله، وإنَّما كانت ولا زالت مَطِيَّةَ الحكم التي لا مَطِيَّةَ غيرها في بلده، فمن أراد أن يحكم فلْيَمْتَشِقْ برنامجه ولْيَعْتَلِ ظهرها، ومن أبى فتَسَعُهُ دارُه وينسط له سريره وترتخي له أحضان زوجته، وبين هذين الخيارين الممسكين بطرف المعادلة لا يوجد خيار ثالث إلا في أدمغة الحالمين السابحين بأحلامهم فوق السحاب، أفتاركها هو للذين لا يدخرون وسعاً في إذلال الخلق؟ كلا؛ فلا مناص إذن من خوض التجربة وسلوك الطريق والجنوح للخيار الأصعب، وهذا ما فعله، وهو عليه مأجور غير مأزور إن شاء الله.

وهذا كلام لم أخرجه من جراب قلمي، هذا كلام علماء الأمَّة، الذين قاموا باستقراء مصادر الشرع وموارده ليخرجوا بقواعد قطعية: من مثل: (الأمور بمقاصدها)([1])، (إذا تعارضت مفسدتان روعى أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما)([2])، (يختار أهون الشرين)([3])، (الشارع الحكيم يدفع أعظم الضررين بأيسرهما)([4])، (يرتكب أخف الضررين)([5])، (إذا تعارضت المصالح والمفاسد قدم الأرجح منها على المرجوح)([6])، (لا واجب مع العجز ولا حرام مع الضرورة)([7])، (الميسور لا يسقط بالمعسور) (ما لا يدرك كله لا يترك كله) إلى غير ذلك من القواعد التي تدور في فلك السياسة الشرعية.

ولقد وظَّف علماؤنا الأكابر هذه القواعد في نوازل كثيرة مشابهة لهذه النازلة، فانظر ماذا قالوا: يقول الإمام ابن تيمية: “كل من استفرغ وسعه استحق الثواب … كما فعل النجاشي و غيره، و لم تمكنه الهجرة إلى دار الإسلام و لا التزام جميع شرائع الإسلام، لكونه ممنوعاً من الهجرة و ممنوعاً من إظهار دينه … وكما كان مؤمن آل فرعون مع قوم فرعون و كما كانت امرأة فرعون، بل وكما كان يوسف الصديق عليه السلام مع أهل مصر … والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن، فإن قومه لا يقرونه على ذلك، وكثيراً ما يتولى الرجل بين المسلمين و التتار قاضياً بل و إماماً و في نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه ذلك، بل هناك من يمنعه ذلك و(لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) … فالنجاشي وأمثاله سعداء في الجنة وإن كانوا لم يلتزموا من شرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه، بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها”([8]) 

هذا نموذج فقط وللإمام كلام كثير في مواضع متفرقة بنفس المعنى، وللعزّ ابن عبد السلام كلام كثير عام يقضي بمفاد هذه الفتاوى، وللجويني كذلك كلام كثير، ربما يذهب في بعضه إلى أبعد من هذا وهو يوجب على الحاكم الذي لا بديل عنه إلا وقوع الفتنة والشر أن يستمسك بمنصبه بالطرق المشروعة، فيقول: “والحق المتبع في ذلك عندي أن الإمام لو علم أنه إن خلع نفسه اضطربت الأمور وتزلزلت الثغور وانجر إلى المسلمين ضرار لا قبل لهم به فلا يجوز أن يخلع نفسه، وهو فيما ذكرناه كالواقف من المسلمين في صف القتال مع المشركين، إذا أراد أن ينهزم وعلم أن الأمر بهذا السبب يكاد أن ينثلم وينخرم فيجب عليه المصابرة، وإن لم يكن متعينا عليه الابتدار للجهاد مع قيام الكفاة به”([9])

أمَّا المزايدة الأكثر سماجة فهي تلك التي تمارس على التجربة وآلياتها، والتي يقوم بممارستها قوم كأنَّهم لم يخلقوا إلا لهذه المزايدة المقيتة، يجوبون بها البلاد ويطوفون بها المشارق والمغارب، يقولون إنَّ التجربة التركية أثبتت أنَّ النموذج العلماني هو الأنسب للحكم في بلادنا، وليتهم ربطوا ذلك بحال الاضطرار دون حال الاختيار؛ إذن لهان الخطب، ولكنهم لم يفرقوا بين رخصة وعزيمة، واعتبروا أنّ هذا ما جاء به الإسلام، وأنَّ هذا هو غاية المرام، بل وراح بعضهم يفتش فيما كتب الأوائل، ويمارس التزوير لمقاصدهم مما كتبوا؛ ليؤصل للفكرة الأشد خطرا على المشروع الإسلاميّ منذ نشأته في الفكر والحراك المعاصر.

إنَّ التجربة التركية – ابتداء – شأنها شأن كل التجارب، يستفاد منها ولكن لا تستنسخ؛ ذلك لأنَّ التجارب مرتبطة ببيئاتها وظروفها، والبيئات والظروف ليست واحدة، فينبغي لكل قطر أن يأخذ منها ما يناسب بيئته وما يتلائم وطبيعة المرحلة التي يمر بها، هذه واحدة، الثانية: يجب أن نفرق بين حال الرخصة وحال العزيمة، بين حال الاضطرار وحال الاختيار؛ حتى لا ننسب لدين الله ما ليس منه، وحتى لا نصادر على الأجيال القادمة حقها في العمل بما يقتضيه ظرفها.

أمَّا أنَّ النجاح الذي حققته تركيا الجديدة منسوب للعلمانية فهو تضليل وتزوير؛ لأنّ العلمانية كانت نظام الجمهورية التركية منذ نشأتها؛ فلم تحقق لها إلا ما رآه الناس جميعا أو علموه من الفقر والتخلف والجهل والبعد عن دين الله ومنهجه، فلا يصح أن ننسب نجاح التجربة إلى النموذج العلماني ونحن نوقن أنَّ النموذج هذا لو اعتلاه غير من يعتليه الآن لعاد بالبلاد إلى ما كانت عليه في سالف الدهر وغابر الأزمان، إنَّ نجاح التجربة يُنسب لأصحابها القائمين عليها وحسب، ينسب إلى الرجال الصادقين الذين لو كانوا يحكمونها بغير هذا النظام لما تغير منهجهم ولا اختل سيرهم.

يبقى أمر أذكره لأصحابه، وهو أنّ هناك من أهل الصدق والنصح من ينتقد سياسة أردوغان في بعض ما يأتي ويذر، سواء في النهج الاقتصادي أو الإداري أو غير ذلك، فهذا ولا ريب مطلوب، بل هو واجب من واجبات الساعة، فالدين النصيحة، ولا عصمة إلا لرسول الله، والشورى سبيل النجاة، وعلى الرئيس أردوغان أن يستمع لهم بل ويستشير أهل الخبرة في كل ميدان، وهذا أدعى لإحراز الصواب وتأليف القلوب، وهو منهج إسلاميّ: قال تعالى: (وأمرهم شورى بينهم) وقال أبوبكر: (وإن أسأت فقوموني) ولقد تابعت أحد خبراء الاقتصاد ينتقد السياسة الاقتصادية للعدالة والتنمية بشدة، لكنه قبيل انتخابات الرئاسة، قال مدللاً على صدقه في النصح: لما رأيت سهام المنافقين وأعداء الدين متجهة إليه علمت أنّه على الحق، أو كما قال حفظه الله ورعاه، وبرغم بعض الانكسارات التي وقعت فإنَّني على يقين من أن تركيا ستتجاوز كل العقبات لتبلغ ما تحلم به في 2023م ورجاؤنا في الله لا يخيب.


[1] الأشباه والنظائر للسيوطى ص39، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص34، مجلة الأحكام العدلية م/2، الأشباه والنظائر للسبكى 1/3.

[2] المجلة  م/ 28.

[3] المجلة  م/ 9.

[4] الطرق الحكمية في السياسة الشرعية – ابن القيم – ط مطبعة المدني – القاهرة تحقيق د/ محمد جميل غازي. – ص 383.

[5] المعيار المعرب للونشريسي 8/433.

[6] مجموع فتاوى ابن تيمية 24/269 – والقواعد الفقهية الخمس الكبرى ص395.

[7] إعلام الموقعين 2/41، القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه ص 92.

[8] راجع: الفتاوى (19/216 – 219) ، ومنهاج السنة (5/69 – 71)

[9]غياث الأمم في التياث الظلم للإمام الجويني ت: د مصطفى حلمي، ود فؤاد عبد المنعم أحمد صـ 36