مُنذ مُدّةٍ أُثيرت على منصات التواصل الاجتماعي وفي بعض القنوات مشكلةُ “قائمة منقولات الزوجة”، وتنازع الناس فيها، ما بين مُتَبَرِّمٍ منها ثائرٍ عليها مُبْدٍ لكثير من الاعتراض والامتعاض؛ لأسباب تبدو وجيهة، وآخر يَعُدُّها حصانة للزوجة وحماية لحقوقها المشروعة، ولا يرى فيها غضاضةً ولا حرجًا؛ لأسباب لا تخلو أيضا من وجاهة، ولا تزال هذه القضية مطروحةً، تشتعل ثم تخبو ثم لا تلبث أن تعود للاشتعال والاشتداد، ولا أحسب أنّ بابها سيغلق قبل أن تستقر على حلٍّ تَقَرُّ به أعين الخلق.
أصولٌ شرعية لضبط البوصلة
بدايةً لا يرتاب أحد في أنّ المهر حق خالص للزوجة، فَرَضه الله في محكم الكتاب: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً)، كما لا يرتاب أحد في أنّ الزوجة لها ذِمَّةٌ مالية مستقلة؛ وتملك الحقّ الكامل في التصرف، فإن شاءت أمسكت صداقها لنفسها وإن شاءت تبرعت له به أو ببعضه، وإن شاءت اتفقت معه على صيغة تُمَكُّنه من الاستمتاع به أو ببعضه مع استقرار ملكيتها، وقد قال تعالى في الآية ذاتها: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا)؛ بما يعني أمرين: الأول سلطانها الكامل على هذا المال، الثاني: جواز استمتاعه بما أباحته له منه.
وعلى هذه الأحكام اتكأ العرف في الديار المصرية لينشئ صيغة تخفف عن الزوج وتحفظ للزوجة حقها، فبدلا من تحميل الزوج كلفة تأثيث بيت الزوجية فوق كلفة المهر نفسه، نجعل الأثاث الذي يستمتعان به هو ذاته المهر الذي تستحقه الزوجة وتمتلكه، والعدل يقتضي أن يُكْتَبَ هذا في عقد يحمي الحق ويصونه، فكانت قائمة منقولات الزوجة.
فلما رأى العلماء أنّ ذلك العرف الذي أنشأه الناس لا يخالف شريعة الله، ويحقق المصلحة المبتغاة؛ أقروه وحَبَّذُوه، وأفتوا بمشروعيته، ثم لَمَّا رأت المؤسسات التشريعية جريان ذلك العرف في الناس واستقراره عملت على تقنينه، وصاغت القواعد القانونية التي تنظمه وتفض النزاع الذي قد يقع فيه، والأصل فيما لا يخالف الشرع أنّ: “العقد شريعة المتعاقدين”، لكنْ لا الفتاوى مستقرة ولا القانون دائم، لأنّ الفتوى في أمر متعلقٍ بالعرف متغيرةٌ بحسب تَغَيُّرِ العرف؛ لذا قالوا في مثل هذه الأمور: “لا ينكر اختلاف الأحكام باختلاف الأزمان”، فهل استقر العرف الجاري في هذه المسألة على ما يحقق المصلحة في الغالب؟ أم استجد ما يستدعي إعادة النظر في المسألة؟
أخطاءٌ تشريعية وانحرافاتٌ تطبيقية
هذا الوضع لم يزل في الأعم الأغلب محققا للمصلحة؛ وباستثناء بعض ما سنشير إليه ليس فيه ما يصادم الشرع مصادمة صريحة، وإِذَنْ فلا تزال القاعدة الفقهية التي تنص على أنّ: “العادة مُحَكَّمَةٌ والعرف معتبر” عاملة في هذه القضية، فليس من الرشد الاجتماعي استصدار قوانين أو اعتصار فتاوى تقوم بتحويل المسار، بتشريع يلوي ذراع العرف ويرده على أعقابه من حيث نشأ؛ فما الحل – إِذَنْ – في الواقعات التي تُعَدُّ ظلما واقعا على الزوج؟
فأمّا من جهة التشريع فإنّه على الرغم من كون قائمة منقولات الزوجة (عارية) وأمانة لدى الزوج، فإنّ إدراج تبديدها ضمن المادة (341 عقوبات) زلل تشريعيّ يترتب عليه مظالم كثيرة؛ لأنّ القانون يجعل التبديد جنحةً يعاقَبُ عليها بالسجن، ويَعُدُّهُ من الجرائم المخلة بالشرف، ولا يفرق بين تبديد “عفش الزوجية” وبين جرائم التبديد الحقيقية، فالكل في نظر القاعدة القانونية العامة خيانة أمانة، بينما الواقع مختلف داخل المحضن الأسريّ، فإنّه يصعب إثبات توفر نية الاختلاس من الزوج لمتاع الزوجة وهما يعيشان في بيت واحد، والقصد الجنائى فى جريمة خيانة الأمانة لا يتحقق بمجرد التأخر فى الوفاء أو بتصرف المتهم فى الشئ المسلم إليه، حتى يثبت اقتران ذلك بانصراف نية الجانى إلى إضافة المال إلى ملكه واختلاسه، إضافة إلى أنّ متاع الزوجة متردد بين كونه عارية استعمال وكونه عارية استهلاك، والعارية مترددة بين حكمين، إذْ اختلف الفقهاء: أهي مضمونة على أيّ حال أم لا تكون مضمونة على المستعير إلا إذا فَرَّطَ أو تَعَدَّى؟ فريقان يقف على رأس الأول الشافعي وعلى رأس الثاني أبو حنيفة.
وعلى التوازي في واقع الممارسة يقف أهل الزوجة موقف المتربص؛ ليستثمروا العرف القائم في إذلال الزوج ووضع الأغلال في عنقه، حتى إنّهم في بعض الأحيان لا يشغلهم ما الذي اشتراه ولا بكم اشتراه، بقدر ما يشغلهم ما الذي سيسطره في القائمة وبأيّ صيغة؛ مما يعني أنّ أولياء الزوجة يريدون أن يضعوا في جيوبهم نصًّا يتمكنون به من حبسه متى استطاعوا إذا لم يحسن للزوجة، وهذا – لعمر الحق – ظلم فاحش، وبرغم أنّه ليس عامًّا إلا أنّه مزعج ومخيف.
حلولٌ جُزئية وأخرى جَذرية
لذلك يجب المسارعة إلى حلول تشريعية، بإعادة تكييف “قائمة منقولات الزوجة” بما يمهد لنقل النزاع حولها – في أول الأمر على الأقل – إلى محكمة الأسرة، وقد أصدرت المحكمة الإدارية العليا منذ شهور حكما بأنّ جريمة التبديد تنال من شيم الرجال ولكن لا تخل بالشرف، وهذا الحكم – وإن كان لا يفي بالمطلوب – يعَدُّ خطوة تؤكد إمكانية التعديل في التشريعات بما يحقق العدل ويرفع الظلم، وعلى الجانب الآخر يمكن أن يصطلح الناس على صيغة في كتابة القائمة لا تضع عنق الزوج تحت سيف عقوبة التبديد، وفي ذات الوقت تضمن لها حقها الماليّ، والشعب المصريّ المسلم مَدْعُوٌ هنا إلى الجنوح للعدل وإلى عدم الاطمئنان لكل ما يكون فيه مظلمة، ولاسيما مع قيام المصاهرة التي تستدعي التراحم.
أمّا الحلول الجذرية فلا سبيل إليها إلا بإنشاء عرف جديد، عرف يكون أكثر اتفاقا مع الشريعة واتساقا مع مقاصدها والتصاقا بالحالة التي يحياها الشعب، فما الضير في أن يَخِفَّ المهرُ على أن يدفعه الزوج كاملا ومقدمًا للزوجة؟ وأن تَخِفَّ (الشَّبْكةُ) على أن نَعُدَّها هدية للمخطوبة لا جزءًا من المهر، وأن يقوم الزوج بتأثيث بيته بتوسط واعتدال، إنّ – هذا مع سهولته – لا يتحقق إلا مع تَوَجُّهٍ عام نحو التجديد الحقيقيّ، والنية إن صَحَّتْ وصَحَّ معها العزمُ تحققت المقاصد.
نقلا عن موقع الجزيرة مباشر – 12/12/2022