ليس لأنّكَ صاحبُ فكرٍ عقيم أو سليم، ولا لأنّكَ رمزٌ في مسارٍ معْوَجٍّ أو مستقيم؛ نتجشم دَحْضَ مقالتك التي تفوهت بها، فإنّ إجماع العقلاء منعقدٌ على أنّك لستَ سوى مقاولٍ مرزوق، وفنانٍ غير مرموق، ولستَ من أهل الفكر في وِرْدٍ ولا صَدْر، حتى نُعْنَى بما تُطْلقه من أباطيل وما تروجه من أضاليل، وإنّما لأنّها صيحةٌ جديدةٌ نعرف الصائحَ بها، ونَعِي كيف نفخها في أبواق عديدة جئت أنت واحدًا منها، ويوم أنْ خرجْتَ على الناس داعيًا للتظاهر ضدّ الذين ظلموك وظلموا قبلك خلقًا كثيرًا دعمناك؛ ليس لأنّك ذو شأن، ولكنْ لأنّ هذا هو شأْنُنا، وبعد فترة من الدهر – لا نعرف فيها أيَّ أرضٍ انطوت عليك – فوجئنا بك تُطِلُّ علينا بوجه كأنّما قُدَّ من “الأرض الجرز”، تلهث بهذا الهراء: عمرو بن العاص محتلّ .. طمس هويتنا وبدّل لغتنا وقوّض معالم حضارتنا؛ وإذَنْ فهذا أوان البيان.
مصرُ هبةُ النيل .. ولكنْ
لا قيمة لمصر بدون نيلها العظيم، فهو شريان الحياة الذي يتدفق بالعذب الزلال فوق أرضها، وينساب بسرّ الحياة بين ربوعها ومروجها؛ فتهتز خضرًا وتموج بالخيرات، ومن هنا قيل: “مصر هبة النيل”، لكنّ المصريين لم ينعموا في تاريخهم بالنيل ولم يستشعروا جماله وجلاله إلا بعد أن نالوا حريتهم بالفتح الإسلاميّ، وما الذي ينالُهُ العبيدُ الأقنان مما حولهم مِن زرعٍ ونخيلٍ صنوان وغير صنوان؟ فمنذ أن قال فرعون (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي) إلى أن قرع عمرو بن العاص أبواب حصن بابليون لم يعشْ المصريون إلا السُّخْرة العقيمة؛ لأنّهم – وعلى مدى عشرة قرون أو يزيد – تقلبوا تحت رحى دول طاغية، شربت النيل كله في بطنها ثم زاحمتهم في لحس الطين؛ سلسلةٌ متصلةٌ من الدول الظالمة الغاشمة، تَمَطَّتْ في الزمان حتى عضّت بذيل الفرعونية، وأسلمت ذيلها للفتوح الإسلامية، وربما لو تَعَرَّى ظهرُ القبطيّ الذي جاء إلى عمر يشكو ضربة عصا لظهرت عليه آثار السياط البيزنطية!
كان فتحًا ولم يكن غزوًا ولا احتلالًا
وإذا كان هذا وأضرابُه من المسكونين بتلك الوساوس لا يفرقون بين فتح واحتلال، ولا يدركون البون الشاسع بين غزوٍ حرَّرَ العباد وغزوٍ استعبد الأحرار؛ فليس عليهم إلا أن يلقوا نظرة على القرآن وأخرى على الواقع التاريخيّ الذي أنشأه القرآن، فإنّ القرآن الذي فرض على المسلمين الجهاد لم يفرضه إلا لتحرير العباد، وحماية حقّهم في الحياة وفي العيش الكريم، وقبل ذلك حماية حقهم في أن يعبدوا خالقهم وأن يدينوا له بالتسليم والطاعة، هذا هو المقصد وهذه هي الغاية، وهذا هو نصّ الكتاب العزيز: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) وأيُّ فتنةٍ أشدُّ من استعباد الخلق وصدّهم عن سبيل الخالق؟ (ويكون الدين لله) أي: يكون الخضوع لمنهج الله، لا لهيمنة المستبدين المتألهين الطغاة.
ولقد جاءت الفتوح الإسلامية محققةً لهذه الغاية؛ فقوضت عروش الظلم، وأسقطت القوى الغاشمة التي تحُولُ دون حرية العقيدة، فلما سقطت قيل للناس: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغيّ)، وما أكره المسلمون أحدًا على الإسلام، ولا على العروبة، ولكنّ الذي وقع كان هو الأمر الطبيعيّ، أنّ الناس دخلوا في دين الله أفواجًا، والتاريخُ خيرُ شاهدٍ على ذلك، وقد شهد بذك كبار مفكري الغرب، فاطرح خلف ظهرك أقوال المستشرقين المتحالفين مع الإمبريالية، وانظر ماذا يقول أهل الفكر، فهذا “غوستاف لوبون” يقول: “إن القوة لم تكن عاملًا في انتشار الإسلام، فقد تركَ العربُ المغلوبين أحرارًا في دياناتهم، فإذا حدث أن انتحلت بعضُ الشعوبِ النصرانيةِ الإسلامَ، واتخذت العربية لغة لها؛ فذلك لِمَا كان يتصف به العربُ الغالبون من ضروب العدالة التي لم يكن للناس عهدٌ بمثلها، ولِمَا كان عليه الإسلامُ من السهولة التي لم تعرفها الأديان الأخرى”، وهذه “زغريد هونكة” تقول: “العرب لم يفرضوا على الشعوب المغلوبة الدخول في الإسلام، فالمسيحيون والزرادشتية واليهود – الذين لاقوا قَبل الإسلام أبشع أمثلة للتعصب الديني وأفظعها – سُمح لهم جميعًا دون أيّ عائق يمنعهم ممارسة شعائر دينهم، وتَرَك المسلمون لهم بيوتَ عبادتهم وأديرتَهم وكهنَتَهم وأحبارَهم دون أن يمسوهم بأذى، أوليس هذا منتهى التسامح؟”.
مصر قبل الفتح وبعده
عندما كانت الرسائل تغدو وتروح مترددةً بين عمرو بن العاص في الشام وعمر بن الخطاب في المدينة، كانت آمال شعب مصر في (مُخَلِّصٍ) تغدو وتروح ذاهبة وآيبة في سماء الكنانة، فلقد طال عذاب القبط بسبب تسلط إخوانهم في الدين الرومان البيزنطيين؛ لمجرد أنّهم لم يدخلوا في مذهب الدولة (الملكانيّ)، وتمسكوا بالمذهب اليعقوبيّ، هذا سوى ما تعرضوا له من عسف وجور بسبب الضرائب الباهظة التي كانت تفرض عليهم بلا أدنى رحمة، ولم يكن ذلك الظلم الذي تعرضوا له بِدْعًا في واقعهم وتاريخهم، فقَبْلَ البيزنطيين والرومان كان البطالمة وقبلهم كان الإسكندر وقبله الفرس، سلسلة غليظة متصلة الحلقات تناوبت على المصريين على مدى قرون حالكة.
لذلك كان فتح مصر سهلًا ميسورًا؛ ليس لأنّ شعب مصر أقلّ صلابة من غيره، ولكن لأنّه كان توَّاقًا أكثر من غيره للخلاص من الظلم والفكاك من القهر، ومن المشهور أنّ المصريين ساعدوا عمرو بن العاص على فتح مصر، وباستقرار الفتح خرج المصريون من العبودية والاسترقاق إلى الحرية والانعتاق، ومن يومها والتاريخ يفرغ لهم من صفحاته مساحات واسعة، ليسطر فيها أمجادًا ارتفعوا بها فوق الثريّا، فلم يكْفِ مصر أنّها رغم بعدها آنذاك عن عواصم الخلافة نافست الحواضر الكبرى كبغداد في النهضة العلمية، فلقد سطرت أعظم الملاحم العسكريّة التي رفعت الأمة ودفعت عنها الغمّة؛ بدءًا من جهاد رجالها مع ابن أبي السرح وعقبة بن عامر، ومرورًا بحطين وعين جالوت، وانتهاء بدحرها للحملة الفرنسية التي كانت الأشرس في تاريخ الإمبريالية المعاصرة، فما أعظمها من نقلة!
وحسبك الأزهر رمزًا للريادة
ولو لم يكن لمصر ما تفتخر به بعد الفتح الإسلاميّ إلا الأزهر لكفاها؛ حسبك به قبلةً للدارسين والمتفقهين، وشرفًا لمصر إلى يوم الدين، والحمد لله ربّ العالمين.
اقرأ أيضا: