لم يَدْرِ المحاورُ أنَّه اختار لي السؤال الأصعب في الملتقى كله؛ حين بادرني قائلاً: حَدِّثْنا عن توقعاتك لمستقبل الربيع العربيِّ، ولأنني أرى نفسي دون التنبؤات التي يطلقها أصحاب الحدس وأرباب الخبرة؛ حاولت الهرب من السؤال بمناورة استدعت سؤالاً أستطيع الإجابة عليه، فقلت: لا تسأل عن مستقبل الربيع العربيّ، ولكن اسأل عن شروط استعادة الثورة التي كان الربيع العربي فصلاً من فصولها؛ فهذا هو السؤال الأجدى، وللتَّوِّ وجدتني أمتلك ناصية الحديث على الوجه الذي أريد، فاستطردتُ قائلاً: وينبغي أن نفرق بين الثورة والربيع العربيّ، فأمَّا الربيع العربيّ فقد مضى وانقضى وولت أيامه وأدبرت لياليه؛ إذ لم يكن سوى موجة من موجات الثورة التي يجب أن تبقى ولا يجوز لها أن تموت وتفنى، ثم مضى بنا الحديث إلى غايته بصورة لم أكن أتوقعها؛ فلله الحمد أولاً وآخراً!والذي ينبغي أن نعتقده ثم نستعصم به؛ لننطلق من منصته بخطى ثابتة هو أنَّ الثورة مستمرة، وأنَّ النصر قادم؛ فنصوص القرآن ومعطيات الواقع يؤكدان ذلك أعظم التأكيد، فأمَّا نصوص القرآن والسنة فمعلومة لدى الكافَّة، وأمَّا معطيات الواقع فظاهرة لمن كان له وعي لم تُشَوِّهْه الهزيمة النفسية، وربما كان الطغاة أعداءُ الحرية أشدَّ إدراكاً منَّا لهذه المعطيات، ولعل هذا هو السرّ في سُعارهم وهوسهم وهم يلهثون وراء كل (بوست) أو (تغريدة) ويطاردون الخواطر في أزقة الأذهان ويسحلون الظنون في زوايا النفوس، إلى حدِّ أنك لو أخذت خطوة للوراء، وتخليت عمّا في داخلك من روع وفزع، لرأيتهم في عجلة مذعورين كأنهم مطلوبون وليسوا طالبين.
صحيح أنَّ الدمار حلَّ بالديار، وأنَّ الدماء غلفت أديم الغبراء ولطخت وجه السماء، وأنَّ حجم المآسي والآلام فاق كل ما يمكن أن تتصوره العقول وتتطرق إليه الأخيلة، لكن للمشهد وجه آخر ربما تدفعك العجلة اللاهثة أو يستفزك الغضب العارم فتتجاوزه دون أن يظفر منك بلفتة أو انتباهة، إنّ هذه الحرب الضروس التي يشنها أعداء الأمَّة في الخارج والداخل عجيبة في آثارها التي تخلفها على الأرض الإسلامية؛ إذ إنَّها لا تقتل نسمة إلا لتحيا بقتلها عقيدة وشريعة وفكرة، ولا تدمر عمراناً ولا بنياناً إلا لتتسع رقعة الساخطين على الإجرام والناقمين على الفساد والاستبداد، ولا تمارس التعذيب والتغييب إلا لتزداد شمس الحقيقة سطوعاً ولمعاناً؛ ولا يمر يوم في ظل المحنة إلا لتتسع دائرة الحاملين لِهَمِّ الأمة ويزداد الجيل بقضيته إيماناً مع إيمانه، بينما في المقابل تفلس القوى المعادية من كل ما كانت تدعيه لنفسها، وتتعرى وتتكشف من كل ما كانت تستر به سوءاتها؛ ليزداد الخلق منها نفوراً وعنها إجفالا، وهذا مما لا يستهان به عند الحديث عن تحول حضاري هائل ينتظره هذا الكوكب العامر بالتحولات.
فالحديث إذاً ليس عن مجيء النصر من عدمه؛ فهو قادم لا محالة، وإنَّما الحديث عن الشروط التي تقرب البعيد وتقلل الكلفة، ولا ريب أنَّ المسار إذا استقام باستيفاء الشروط وانتفاء المعوقات فإنَّ الغاية تدنو والكلفة تبلغ أقصى انخفاض لها، فما هي شروط استعادة المسار وبلوغ الانتصار؟ هذا هو السؤال الجدير بأن نفسح للإجابة عنه من أوقاتنا وجهدنا ما يليق به.
الشرط الأول:
تمثل الخطوة الأولى الْمَنْسِيَّةُ الشرط الأول لاستعادة الثورة، فمادامت مهدرة فسعينا كله هدر، وما دمنا متجاهلين لها فستبقى خطواتنا سيراً للوراء، لا ندنو من الغاية إلا بقدر ما يدنو الماشي للخلف من غايته التي تبدو له في الأمام، لابد قبل كل شيء من المراجعة الجماعية الرشيدة، هذه هي الخطوة الأولى التي تخطيناها ونحن نندفع بقوة رد الفعل الوقتيّ، ولست أقصد بالمراجعة تلك المقاصل التي اعتاد الإسلاميون أن يشنقوا تجاربهم على أعوادها، فليس من المعقول ولا المقبول أن يقال: إنّ تجربتنا السياسية فشلت لأننا ضللنا السبيل حين ولجنا ذلك الميدان، وإنَّ تجربتنا الجهادية فشلت لأننا أجرمنا في حق ديننا وأمتنا حين سلكنا هذا السبيل، وأننا فشلنا في الدعوة والتربية وطلب العلم والتعليم لأننا لا نصلح لذلك ولسنا من أهله؛ فأيَّ سبيلٍ نسلكُ إذَنْ وفي أي طريق نسير؟! وهذه حصراً هي السبل المؤدية على الافتراق أو الاتفاق إلى النصر والتمكين!!
الحقيقة أنَّ هذه السبل ممهدة وموطدة لسالكيها، لكن الفشل له أسباب أخرى، على رأس هذه الأسباب أننا نسلك هذه السبل متفرقين متنازعين بلا مشروع يجمعنا ولا رؤية تحدد وجهتنا، ويليه سبب نجفل عن مواجهته إجفال العليل عن دوائه، وهو ذنوبنا الحركية، تلك الذنوب الموبقات التي تستوجب المبادرة إلى التوبة، فنحن من خالف – أَصْرَحَ المخالفة – مقتضى هذه الآية الكريمة: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) (هود 113)، ونحن من استدبر – أَوْضَحَ الاستدبار – مقتضى هذه الآية الحكيمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (آل عمران 118)، ونحن من تجافى عن المنهج الإلهي في التعامل مع الناس: (لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الحجر 88)، والدليل على أننا لم نَتُبْ بعدُ هو ذلك اللهث وراء كل غاد ورائح والجري خلف كل ناعق وصائح، وهي سلوكيات لا يتردد من يراها ويرانا مصرين عليها في أن يشير إلينا بهذه الآية: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ) (الأنعام 28).
الشرط الثاني:
فهو توسيع رؤيتنا للمشهد زماناً ومكاناً وواقعاً ومآلاً؛ فالثورة لم تمت برغم كل ما جرى، ومسارها أكبر من الأحداث التي بدأت ب 25 يناير 2011م وانتهت ب 3 يوليو 2013م، فالثورة بدأت بمقاومة الاحتلال المباشر ولن تنتهي إلا بإنهاء الاحتلال بالوكالة، وهي ليست ثورات تتعدد بتعدد حدود سايكس بيكو، وإنما هي ثورة واحدة تمتد موجاتها في أماكن وتحسر عن أخرى بحسب العوامل التي مهما كثرت وتباينت لا يمكن أن تعكس اختلافا في مزاج الشعوب العربية والإسلامية، ولا يزال بإمكاننا استعادة المسار، ولا زلنا في الميدان لم نستسلم ولم نسلم الراية؛ وهذا بحد ذاته انتصار، ولا بد من استصحاب الماضي واستشراف المستقبل.
الشرط الثالث:
هو النجاح في تحقيق الحد الأدنى من الوحدة الإسلامية، ذلك الذي لا يتحقق إلا بتوحيد البوصلة وحسن إدارة الاختلاف، ثمَّ التفريق بين المبادئ التي يجب أن نتفق عليها والآليات التي تختلف من زمان لآخر ومن حال لآخر، وتتنوع لتلبي اختلاف الاستعدادات والمواهب ولتتواكب مع المعطيات المختلفة، هذه الوحدة هي واجب الوقت، وهي ممكنة التحقيق في حدها الأدنى الذي أشرنا إليه هنا، والعمل بها أو الإهمال لها هو المحدد لدرجة استجابتنا للآية التي تستثير شجوننا كلما تلوناها أو استدعيناها: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) (آل عمران 103).
الشرط الرابع:
بناء المشروع المعبر عن هوية الأمَّة، ووضع الرؤية المحددة لوجهتها، والنابعة من صلب حضارتها وثقافتها، ما هي رؤيتنا؟ وأين هو مشروعنا؟ لماذا نبقى نحن من بين خلق الله بلا رؤية ولا مشروع؟ سيقول قائلنا: لديَّ أو لدينا رؤية ومشروع، ويرد عليه حالنا البائس: هذا – إن وجد – مشروعُك أو مشروعُكم، وليس مشروعَ الأمَّة، أمَّا مشروعُ الأمَّة فهو الذي يلتقي عليه جمهور علماء الأمة وجمهرة كبارها وأخيارها وخبرائها، وكل ما كتب مجرد اجتهادات فردية لا ترق لمستوى المشروع ولا تمثل الرؤية التي تنير للأمة طريقها، ولا ريب أنّ هذا يتطلب عملا جماعيا لا تحتكره جماعة ولا يهيمن عليه حزب ولا يستأثر بصناعته مكون دون آخر؛ مما يؤكد ضرورة تحقيق الوحدة في حدها الأدنى الذي تحدثنا عنه آنفاً.
والمشروع الإسلاميّ لا يتم إلا بالتطرق إلى محاور عديدة: المنطلقات والغايات، الوسائل والأدوات، المحفزات والمعوقات، التحديات والآمال، الخطوات والمراحل، الشروط المتعلقة بكل مرحلة، القوى الرافعة والطاقات الدافعة، التصور الكامل للمفردات والمصطلحات الكبيرة: الثورة والتغيير – الحرية والمسئولية المجتمعية – العدالة الاجتماعية – الدولة والحكم – السلطة والسيادة – الشرعية وسيادة القانون – تحكيم الشريعة – حقوق الإنسان – توزيع الثروة – شروط النهضة – المواطنة والسلم الاجتماعي – العلاقات الدولية والوجود الجيوسياسي – المجتمع الدولي والتمكين – النظام العالمي …. إلخ.
الشرط الخامس:
يأتي الشرط الخامس طائراً بجناحين أو سائراً على قضيبين متوازيين، فاستعادة الثورة وبلوغ النصرة لا يتم لهذه الأمّة إلا بأمرين متلازمين: الأول الانبثاق والانطلاق من القرآن، الثاني: مراعاة السنن الإلهية، فنحن أمَّة لها كتاب ودستور، ولها كذلك سنن إلهية خاصة تضاف للسنن الإلهية العامة التي يجب أن تراعيها، والقرآن الكريم الذي نزل على مدى ثلاثةٍ وعشرين عاماً مليئةٍ بالأحداث التي استوعبت كل مراحل المشروع الإسلامي هو وحده المرجعية الملبية لكل مطالبنا والمغذية لكل مراحل مسيرتنا؛ لابد من الرجوع إليه والانطلاق من تعاليمه وعدم مخالفته بحال من الأحوال، ولابد كذلك من مراعاة السنن الإلهية العامة والخاصة، كسنة التدافع: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) (البقرة 251) وسنة التداول: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ) (آل عمران 140) وسنة التمحيص والتخليص: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) (آل عمران 179) وغير ذلك مما يضيق المقام عن ذكره فضلا عن شرحه وبسطه.
الشرط السادس:
الحفاظ على الأرصدة والمكتسبات، فالشباب رصيد والهوية رصيد والمنهج رصيد، والعقيدة الحية رصيد، والتراث والفطرة والحياء والنخوة وغيرها أرصدة أودعها الله تعالى في دواوين أمتنا، والوعي مكتسب من مكتسبات المرحلة، والشرعية مكتسب سياسي واستراتيجي كبير، وتراكم الغضب مكتسب لا يستهان به، وهناك مكتسبات كثيرة أخرى يجب الاجتهاد في بلورتها وإبرازها، كما يجب الحفاظ عليها وعلى جميع الأرصدة، إنها هبات ربانية، وإنها أمانة في أيدينا، ولا يوجد شيء أثمن منها حتى نضحي بها من أجله، وما يسمى بالاصطفاف وهم وسراب، الغرض منه فرض أجندات، وضريبته خسارة الأرصدة والمكتسبات، إنما الاصطفاف يكون بين فصائل الشعب كامتداد للوحدة في حدها الأدنى، لا بين النخب ذوات الأجندات الخاصة.
الشرط السابع:
يأتي في ذيل هذه الشروط شرط أهميته كأهمية الذيل لكل طائر يطير في جو السماء ويحلق في العلياء، وهو شرط المرونة والثبات، المرونة في كل ما وضع ليكون مرناً ناقلا للحركة، والثبات في كل ما وضع ليكون ثابتاً يحفظ التوازن، فالآليات والأدوات والوسائل كلها من الأمور المرنة، فلا جمود فيها ولا حتمية؛ ووضع شيء منها في قائمة الثوابت عبر مواثيق وأوراق عمل وغير ذلك يصادر حق الأجيال أو يفصلها عن القادة، فالسلمية والعسكرة وما بينهما مما يتدرج من أدنى الليونة إلى أقصى الخشونة وسائل وأدوات وآليات عمل، لا يذم شيء منها لذاته ولا يمدح، إنما يذم ما لا يناسب الحال ويمدح ما يناسبه ويتفق مع معطياته، وقد تجتمع في الزمان الواحد أكثر من آلية، والمسألة برمتها تخضع لتقدير ذوي الخبرة.
هذه هي شروط استعادة الثورة حسبما يتراءى في بادي النظر، ولست أدعي الاستيعاب، والأمر مفتوح للاجتهاد [1].