الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
لم أتَلَقَّ كلمات ذلك المأفون المفتون إلا ببالغ الاشمئزاز، ولم تورثني تُرَّهاته سوى مزيداً من الازدراء له ولأمثاله ممن لا نشك في عمالتهم ونذالتهم، غير أنّ الشبهة التي أثارها لفتت انتباهي لكونها ترددت على ألسنة أطراف عديدة تنتمي إلى مجالات شتى، وهي شبهة ضعيفة ومنقوضة من أعلاها إلى أسفلها، ولا تستحق الرد ولا حتى مجرد الالتفات، غير أنَّها أثيرت في زمان ضعف فيه الفهم وقل فيه العلم وتهافت فيه الخلق على الأقوال الداعية إلى التخاذل والتكاسل؛ لذلك وجب التناول وتحتم الردّ، ولسنا بهذا نعطي أي وزن لأمثال ذلك المدعو سعيد رسلان أو غيره، فقد نزل قرآن يتلى في الرد على شبهات أثارها أمثال أبي جهل وابن خلف، ومع ذلك لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها واحدا منهما شربة ماء.
لماذا تُصِرُّ حماس في اندفاع غير مبرر على مغايظة الأسد والعبث عند أنفه؟!
ألم تعلم أنَّها إنَّما تواجه دولة منظمة ذات مؤسسات شامخة وقواعد راسخة؟!
ماذا تصنع المقاومة بألعاب الأطفال هذه التي لا تقوى بها على مواجه جيش إسرائيل إلا إذا قوي على مواجهة الأسد نعامةٌ لا تملك من المميزات إلا طول ساقيها وامتداد عنقها؟!
وهل يجوز لها هذا العبث باسم الجهاد إذا كان يتسبب في قتل الآلاف من الأبرياء المدنيين؟!
أين حرمة الدماء؟! وأين من هذا الحمق والطيش صوت العلماء؟!
هذا ما يتقيأونه تصريحاً وتلويحا، وهذا ما تنطبق به وجوههم وجباههم قبل أن تلفظه ألسنتهم وشفاههم.
فلنبدأ معهم من الأكمة التي يقفون عليها؛ لأننا وهم نعلم جميعاً ما وراء الأكمة: فلنفترض أنَّ مواجهة حماس لدولة منظمة مدججة بالسلاح عبث ولهو؛ فما الذي فعلته الدول العربية بأسرها، ولديها من الجيوش النظامية التي تنفق على تسليحها من أقوات الشعوب ما لا تستطيع الحواسب عدَّه؟! ماذا فعلت لشعب فلسطين أو لأي شعب من شعوب المسلمين في أي أرض تذوق فيها الويلات؟! أروني جيشاً عربياً واحداً تحرك، فشرق في سبيل الله أو غرب، فإن عجزتم – وإنكم لعاجزون إلا عن الثرثرة – فرددوا واهتفوا: إنها جيوش لحماية العروش، وملء البطون والكروش.
كان يمكن أن يكون لكلامكم وجاهه لو كانت الأنظمة التي تستعبدكم في تمجيدها وتستخدمكم في تخليدها وتأبيدها تُمضي الجهاد وتقاوم المعتدين وهذه الجماعة (حماس) تَفْتَئِت على الجهاد وتَبْرُز برأسها أمام الصف، أمَّا والحقيقة أنَّ حماس وحدها هي التي تتصدى للعدو الصهيونيّ فهي الدولة، وما عداها أهرام من ورق وأصنام من روث وعلق، ولن تكون مخادناً للأحلام ولا مسافراً مع الأوهام إذا قلت: إنَّ كل هذه الأنظمة تعيش وتقتات مما تلقيه حماس من الفتات، وحاول لكي يطمئن قلبك لما تقول أن تتخيل إسرائيل بدون حائط الصد العتيد العنيد هذا؛ إنَّ كل هذه العروش وما عليها من الجحوش وجودها وبقاؤها مرهون باستمرار المقاومة الفلسطينية، فليتهم يفهمون أو يتعدى نظرهم أطراف أنوفهم!!
ثم ما هذا القلب للحقائق والأوضاع؟! ولماذا يخفضون القمة ويرفعون القاع؟!
أتحاسب المقاومة على دماء أراقتها يد المحتل؟! ويُخْلَع على الغاصب الغشوم صفات الرزانة والحزم ونعوت الرسوخ والشموخ؟!
ألهذه الدرجة فارقنا ثوبتنا وهجرنا قيمنا؟! إنَّ الذي يجب أن يحاسب ويؤخذ على يديه هو المحتل الغاصب، الذي تسبب في كل هذه الكوارث أولاً وآخراً؛ أولاً بعدوانه، وآخراً برده على مقاومة المقاومين لعدوانه بقتل أهليهم وذويهم، هذه مسلمة بديهية تقرها جميع الأديان والأعراف وتسلم لها كافة القوانين والمواثيق، وما قال أحد ممن يعتد بقوله في أي ملة من الملل أو أي نِحْلة من النِّحَل بأنَّ الغاصب برئ وأنَّ المقاوم متهم.
ثم أين أنتم وجميع من يقف معكم في خندق الإرجاف والتخذيل الذي لا تفارقونه حتى تفارق العاهرة مضاجع المخادنة؛ أين أنتم وهم من واجب الدفع الذي لا خلاف فيه عند أهل الإسلام قاطبة، أم إنَّ إسرائيل لم تعد عدواً محتلاً يغتصب المقدسات وينتهك الحرمات؟! قولوها بصراحة فقد قالتها مواقفكم، قولوا إنهم إخوانكم وأريحوا واستريحوا؛ فقد تعب الناس من نفاقكم والتفافكم حول رقاب الخلق بهذه الحيل اللولبية.
فإن قلتم – وما هو عليكم ببعيد – إنَّ بيننا وبين إسرائيل معاهدات سلام، فما عليكم إلا أن تراجعوا كتب الفقه في جميع مذاهب المسلمين سنيهم وشيعيهم وزيديهم وظاهريهم وإباضيهم؛ فإن وجدتم فيها – وقد وفرتها لكم في هامش المقال اختصاراً – ما يدل من قريب أو بعيد على صحة هذا الوضع الذي تسمونه معاهدة سلام فأنتم على حق ورقصكم لليهود صلاة وصمتكم عن طغاينهم صيام.
إنَّ معاهدة السلام التي تسمى في الفقه الإسلاميّ بالهدنة قد وضع العلماء لجوازها وصحتها شروطاً، لم تسعد معاهدة واحدة من المعاهدات العربية الإسرائيلية بتحقيق شرط واحد منها، وهي:
- أن تكون الهدنة خيراً ومصلحة للمسلمين؛ وبعضهم حصرها في المصلحة الضرورية، وهذا شرط اشترطته كافة المذاهب: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والزيدية والإمامية والإباضية(1)، فهل يمكن مع هذا السيل من المفاسد والمضار أن يقال إنّ في معاهدات السلام مع الكيان الصهيوني مصلحة؟!
- ألا تشتمل المعاهدة على شرط فاسد، وهذا أيضا في كافة المذاهب الفقهية(2)، وقد اشتملت جميع هذه المعاهدات على شروط فاسدة تبطل المعاهدة وتنقضها من أصولها، أقلها أعظم فساداً من جميع الأمثلة التي ذكرها العلماء في المصادر التي أشرنا إليها في الهامش.
- أن لا تكون الهدنة مؤبدة؛ لأنها تلغي فريضة الجهاد، وهذا شرط لم يخالف فيه أحد، إنما الخلاف وقع في مسألتين: الأولى هل يشترط توقيته بمدة محددة أم يجوز أن يكون مطلقا على ألا يكون مؤبداً؟ الثانية عند من قال باشتراط التوقيت اختلفوا في أقصى مدة للتوقيت، لكن ما قال أحد بجواز أن تكون مؤبدة قط، وعلى من ادعى ذلك أن يأتي بالدليل من أقوال الأئمة.
وأخيراً نقول لكم: وفروا حناجركم فوالله الذي لا إله إلا هو لن يتوقف الجهاد في سبيل الله ولو بلغ طنينكم في النهار ونقيقكم في الليل عنان السماء، فقد حكم الله بأنّ الجهاد ماض إلى قيام الساعة، وبأن الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وبألا يخلوا زمان من الطائفة المنصورة التي لا يضرها من خذلها ولا من نبح عليها إلى أن يأتي أمر الله وهم كذلك في جهادهم وأنتم كذلك في خذلانكم.
المراجع:
- راجع المبسوط للسرخسي 10/86 – درر الحكام شرح غرر الأحكام محمد بن فرموزا منلا خسرو 1/284 – شرح مختصر خليل للخرشي (150) – أسنى المطالب شرح روض الطالب (4/224) – الأم محمد بن إدريس الشافعي 4/2 – كشاف القناع (3/112) – التاج المذهب (4/449) –جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام، عبد الله بن حميد السالمي (ص603) – بدائع الصناع للكساني (108)، وأشرف المسالك (1/113) التلقين (1/238) – شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام (ص303-304).
- راجع شرح السير الكبير (5/ 1750) – شرح مختصر خليل، للخرشي (ص151) -التاج الإكليل (4/605) – أسنى المطالب شرح روض الطالب (4/224) – الكافي لموفق الدين ابن قدامة (4/231) – التاج المذهب (4/449) – شرائع الإسلام (1/304).