في عالم لا يعترف إلا بالقويِّ، ولا يحترم ولا يكترث إلا بمن يمتلك أدوات الضغط والإكراه؛ يبزغ سؤال له أهمية كبيرة في تفسير ما يجري وفي وضع الحلول لما نحن فيه من خطوب وكروب، والسؤال هو: ما موقف القرآن الكريم من استخدام القوة ؟ وما هي الأسس الفكرية والعقدية التي ينبني عليها هذا الموقف ؟ وبالجملة: ما هي العلاقة بين القرىن الكريم ومنطق القوة ؟
ولست أعني بمنطق القوة سوى ذلك المعنى المباشر الذي يتبادر إلى الذهن بمجرد النطق بلفظ القوة، ولن أذهب قطّ إلى تلك الفضاءات البعيدة التي يذهب إليها القاصدون للتوسع والاستطراد، لن أتحدث عن أنواع القوة التي لا يحصيها العدّ ولا يطويها الاستقصاء مهما امتدّ، فقط سأتحدث عمّا يطيب للكثيرين التعبير عنه بمصطلح: القوة الخشنة؛ وذلك لأنّه المقصود دون توسع، وإن كانت أنواع القوة الأخرى لا غنى عنها .
ولن أكون خارجاً عن فلك القرآن إذا دعمت رؤيتي بجملة من الأحاديث – وإن كثرت بعض الشيء – ما دام الأصل هو القرآن؛ لأسباب، منها: أنّ السنّة وحي بالمعنى، وهي أحد قسمي الوحي، وأنّ حجية السنة ثابتة بالقرآن نفسه، وأنّ من السنّة – وهو الأغلب – ما هو مُفَصِّل لما أُجمل في القرآن، وما هو تأويل لمقاصده وتنزيل لأحكامه على واقع الأمّة وحياة الناس .
إنّك إن ألقيت نظرة سريعة في سور القرآن الكريم – مكّيّه ومدنيّه – لرجعت إليك بحقيقة أولية غاية في البساطة والوضوح والصراحة والثبات، هذه الحقيقة مفادها أنّ الحقّ يخوض صراعاً أزلياً سرمدياً مع الباطل؛ ومن ثمّ فلابدّ للحق من قوة تحميه، وتهيء الأوضاع لقبوله والتسليم له والعمل بمقتضاه .
هذه الحقيقة الأولية البالغة البساطة والوضوح والصراحة والثبات؛ تنبثق منها وتتفرع عنها جملة من الحقائق، تدور في فلكها الرحيب، وتتسم بسماتها الأربع (البساطة والوضوح والصراحة والثبات)، بدرجات متفاوتة حسب القرب والبعد، والالتصاق والافتراق، دون إخلال باجتماع هذه السمات والتئامها .
الحقيقة الأولى:
أنّ القرآن المكيّ، الذي نزل أيام كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله تعالى في مكة دعوة خالية من كل أشكال الشدّة على الكافرين، لم يشتمل مطلقاً على ما يدل على أنّ الإسلام ضدّ استخدام القوة، أو أنّه دين لا يعتمد أسلوب فرض الوجود على الأرض بالقوة، وإنما اشتمل فقط على خطاب تكليفيّ للمؤمنين بالإعراض والصفح الجميل، وليس في هذا الخطاب نفيٌ لمبدأ القوة، لأنّه لم يأت معللاً بانتفاء المبدأ، وإنما جاء في مواضع عارياً عن مثل هذا التعليل، مثل قوله تعالى: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) (الحجر 85) أي: “فأعرض عنهم إعراضا جميلاً واعف عنهم” تفسير الطبري جامع البيان (17/ 127) وفي أخرى جاء معللاً بالوقتية مثل قوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حين} (الصافات 174) أي: ” اصبر على أذاهم لك وانتظر إلى وقت مؤجل فإنا سنجعل لك العاقبة والنصرة والظفر؛
ولهذا قال بعضهم: غَيَّا ذلك – أي جعل لذلك غاية – إلى يوم بدر” تفسير ابن كثير ط العلمية (7/ 40)، والمسلك الصحيح للتعامل مع هذا التنوع هو تفسير الآيات الواردة في هذه القضية في ضوء ما ورد منها معللاً بالتوقيت، فيكون المقصود بالعفو والصفح في قوله تعالى: (فاصفح الصفح الجميل) أي: إلى حين استقرار النصر لك. تفسير القاسمي – محاسن التأويل (8/ 234)
ولأجل هذا قال أغلب المفسرين من السلف بأن آية السيف نسخت كل ما سبقها من الآيات التي تتحدث عن الصفح والإعراض، إلا أنّ المحققين لم يوافقوا المتأخرين من المفسرين في حملهم قول السلف بالنسخ على معنى النسخ في الاصطلاح، وهو رفع الحكم السابق بخطاب لا حق، لأنّ السلف لم يقصدوا بالنسخ ذلك المعنى الاصطلاحي المتأخر، وإنما قصدوا ما هو أعم منه وأشمل، مما تتسع له اللغة ولا يتسع له الاصطلاح، من ذلك أن يشرع الحكم لسبب ثم يزول السبب فيرتفع الحكم لزوال سببه. راجع: مناهل العرفان (2/254)
ولم يرد قط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ينافي ذلك في الواقع العمليّ للدعوة الإسلامية، بل ورد ما يدعمه ويقويه، فها هو يصدر عنه بعض ما يضمره إلى أن يحين وقته، عندما تعرضوا له بالأذى قال: «تسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفس محمد بيده، لقد جئتكم بالذبح» فأخذت القومَ كلمتُه، حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائرٌ واقع، حتى إن أشدهم عليه ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول، ويقول: انصرف يا أبا القاسم، انصرف راشدا، فوالله ما كنت جهولاً. مسند أحمد (11/ 610) – سيرة ابن هشام (1/ 290) – البداية والنهاية (3/ 61) – تاريخ الطبري (2/ 332)
ولقد كان صلى الله عليه وسلم حريصاً على ألا يصدر منه ما يخالف مبدأ استخدام القوة، حتى في الظروف التي يكون فيها مكروبا مستضعفاً، بل لم يضطره لذلك حرصه على تأليف الخلق أو خوفه من تفرق الناس عنه، ومن شواهد ذلك أنّه عرض نفسه في موسم الحج على القبائل، فأتى بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم يقال له: بيحرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال له: أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من يخالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: ” الأمر لله يضعه حيث يشاء”، فقال الرجل: أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه. البداية والنهاية ط إحياء التراث (3/ 171)؛ فلم تشتمل إجابته على ما ينفي ما تبادر إلى فهمهم من أنّ الإسلام لابد له من دولة وقوة، رغم حرصه على هدايتهم، كما لم ينف ذلك عندما عرض عليه الذين بايعوه عند العقبة هذا العرض: “والله الذي بعثك بالحق: إن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا؟” واكتفى بإعلامهم بأنّ الأمر لم يصدر بعد بذلك، فكان جوابه: “لم نؤمر بذلك” سيرة ابن هشام ت السقا (1/ 448)
ولو أنّنا دققنا النظر لاكتشفنا ما هو أبعد من ذلك في دلالته، فهناك آيات مكية كثيرة اشتملت على إشارات واضحة الدلالة على هذا المبدأ، فعلى سبيل المثال؛ سورة العاديات افتتحت بهذا القسم: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)} فعلامَ أقسم الله تعالى بالخيل التي تعدو فتضبح في عدوها وتصبح القوم قادحة للشرر مثيرة للنقع متوسطة للجمع ؟ وكان جواب القسم هكذا: ” إنّ الإنسان لربه لكنود ” ومحال ألا تكون هناك علاقة بين القسم والمقسم عليه؛ لأنّ كلام الله آخذ بعضه برقاب بعض، والعلاقة هي علاقة السبب بالمسبب، فكنود وجحود البشرية وموقفها المتعنت تجاه الحق وأهله يستدعي العاديات ضبحاً المغيرات صبحاً؛ ليس فقط لحماية الحق ودعاة الحق، وإنما لذلك ولأمر آخر لا يقل أهمية عن حماية الحق وأهله، وهو تهيئة النفوس والأوضاع لقبول الحق والتسليم له.
وتأتي الإشارة أكثر وضوحاً في سورة القمر، حيث ذكر الله تعالى فيها قصص الأمم المكذبة للمرسلين، وذكر مصارعهم جميعاً، حتى إذا ما بلغ السياق أهل مكة المكذبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذا بالسنّة الماضية تأخذ لوناً جديداً: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)} (القمر 43-45) فالأخذ – إذاً – هذه المرة سيكون بأيدي المؤمنين وجهادهم، وهذا المعنى لم يتضح للناس بشكل كامل إلا يوم أن التقى الجمعان ببدر ووثب رسول الله صلى الله في درعه صائحاً: {سيهزم الجمع ويولون الدبر}.
هذه هي الحقيقة الأولى، حقيقة خلو الخطاب في مكة من كل ما يخالف مبدأ القوة، هذه الحقيقة لها دلالاتها المتعددة، أول هذه الدلالات أنّ مبدأ اعتماد القوة لم يكن ردّ فعل بسبب ملابسات تاريخية، ولم يكن تطوراً في أدوات الصراع اقتضته مرحلة من مراحل الدعوة، وإنما كان منهجاً ثابتاً؛ يدفع بثباته هذا كل ما توسوس به نفوس المنهزمين من المسلمين، الذين يحاولون تبرير فريضة الجهاد – لاسيما جهاد الطلب – بملابسات تاريخية وظروف غير دائمة .
الدلالة الثانية تتمثل في رسوخ المبدأ وثباته؛ إلى حدّ أنّ الحاجة الملجئة بسبب ضغط الجاهلية وبطشها بقوم ليس لديهم منعة؛ لم تفلح في استدعاء خطاب يفتح للجاهلية باب الأمل في أن تتعايش مع الإسلام على أرض واحدة، ناعمةً بسلام تأخذه وتعطيه، وأمان يفرضه طمع كل فريق في البقاء .
الحقيقة الثانية:
أنّ مبدأ اعتماد القوة في الإسلام مبنيّ على أسباب شرعية وواقعية في ذات الأمر، فهو مبرر شرعاً وواقعاً، فإذا تأملنا – على سبيل المثال – قول الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) (البقرة 253) لتبين لنا واقع يبرر بوضوح تام وصراحة مفرطة اعتماد الإسلام لمبدأ القوة، فلولا أنّ الناس اختلفوا إلى مؤمنين وكفار ما اقتتلوا؛ فاقتتالهم هذا نتيجة طبيعة لافتراقهم إلى مؤمنين وكفار؛ لأنّ من طبيعة الجاهلية والإسلام أنهما لا يأتلفان حتى يأتلف النور والظلام، ولا يلتقيان حتى يلتقي الليل والنهار .
ومثل هذا أو قريب منه تجده في افتتاح سورة محمد التي سميت بسورة القتال: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)} (محمد 1-3) ثم انطلق السياق بعدها إلى غايته، وهي وضع استراتيجية القتال في المرحلة تلك، وهي الإثخان في الارض قبل أخذ الأسرى وقبول الفدية: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}(محمد آية 4) ، والشاهد هنا هو أنّ القتال الذي فرض هنا ووضعت لتنفيذه خطة واضحة بني على أصل واقعيّ يبرره ويفسره، وهو اختلاف الناس إلى مؤمنين وكفار .
وأوضح من هذا وذاك هاتان الآيتان: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} (البقرة 251) {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} (الحج 40) أي: لولا دفع الله الناس (الكافرين المفسدين) بالناس (المؤمنين المجاهدين) لفسد دين الناس ولفسدت كذلك دنياه ومعايشهم.
الحقيقة الثالثة:
أنّ السعي لامتلاك أسباب القوة فرض على الأمّة لا يسقط ولا يتأجل، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} (الأنفال 60) والتدريب اللازم للمواجهة من الإعداد ومن أسباب القوة؛ وقد خرّج مسلم وغيره عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله وهو على المنبر يقول: ” {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي ” صحيح مسلم (3/ 1522)
ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغفل قط عن الإعداد بكل مستوياته، مرّ صلى الله عليه وسلم ذات يوم على نفر من أسلم ينتضلون، فقال: «ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميا ارموا، وأنا مع بني فلان» قال: فأمسك أحد الفريقين بأيديهم، فقال: «ما لكم لا ترمون؟»، قالوا: كيف نرمي وأنت معهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «ارموا فأنا معكم كلكم» صحيح البخاري (4/ 38) وعن ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بالخيل التي قد أضمرت من الحفياء، وكان أمدها ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر، من الثنية إلى مسجد بني زريق» متفق عليه.
وإذا كان الإنفاق في سبيل الله جهاد بالمال ينافس الجهاد بالنفس؛ فإنّه ما قصد به إلا القيام بواجب الإعداد، ومن هنا ذمّ الله تعالى المنافقين لكنهم بخلوا وضنوا بأموالهم فلم ينفقوا منها للإعداد، ولعل التأويل الصحيح لقوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة 195) مفاده: أنّ عدم الإنفاق يفضي إلى ترك الإعداد وهو التهلكة الحقيقية .
الحقيقة الرابعة:
أنّ حاجة الأمة الإسلامية للقوة مستمرة إلى نهاية الدنيا، قال الله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}(محمد آية 4) أي حتى تضع الحرب أثقالها وآثامها التي لابد منها والتي نضطر إليها من باب اختيار أهون الشرين، لكن متى تضع الحرب أوزارها ؟ قال مجاهد وابن جبير: هو خروج عيسى عليه السلام تفسير القرطبي (16/ 228) وقال آخرون: يعنى: حتى يترك أهل الحرب- وهم المشركون – شركهم ومعاصيهم بأن يسلموا تفسير الزمخشري – الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (4/ 317) وقال القاضي أبو محمد: وظاهر الآية أنها استعارة يراد لها التزام الأمر أبداً، وذلك أن الحرب بين المؤمنين والكافرين لا تضع أوزارها، فجاء هذا كما تقول: أنا أفعل كذا إلى يوم القيامة، فإنما تريد: إنك تفعله دائماً تفسير ابن عطية – المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (5/ 111)
وقد أورد بعض المفسرون في ثنايا تفسيرهم لهذه الآية ذلك الحديث الذي يمضي على نفس المعنى: عن عروة بن الجعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» متفق عليه، وآخرون أوردوا هذا الحديث: عن جبير بن نفير، عن سلمة بن نفيل، قال: كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: يا رسول الله، أذال الناس الخيل، ووضعوا السلاح، وقالوا: لا جهاد قد وضعت الحرب أوزارها، فأقبل بوجهه، وقال: «كذبوا الآن، الآن جاء القتال، ولا يزال من أمتي أمة يقاتلون على الحق، ويزيغ الله لهم قلوب أقوام، ويرزقهم منهم حتى تقوم الساعة، وحتى يأتي وعد الله، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وهو يوحى إلي أني مقبوض غير ملبث، وأنتم تتبعوني أفنادا، يضرب بعضكم رقاب بعض، وعقر دار المؤمنين الشام» رواه النسائي (6/ 214) وصححه الألبانيّ.
الحقيقة الخامسة:
أنّ اعتماد الإسلام لمبدأ القوة ليس فقط لردّ العدوان ولا لحماية الدعوة والدعاة، وإنما لذلك ولأهداف أخرى غاية في الأهمية، قد نص القرآن عليها نصاً، وهي دفع فتنة الكفر والشرك عن الأرض، وتهيئة النفوس والأوضاع لتتقرر سيادة الشريعة ويكون الدين كله لله؛ لذلك فرض ما يسمى في الفقه الإسلاميّ بجهاد الطلب، وهو الجهاد الذي لا ينتظر عدوان المعتدين حتى يكون هو الطالب للمشركين والكافرين المبتديء بقتالهم – بعد إعلامهم بالدعوة – حتى ولو لم يقع منهم عدوان .
إنّ الله تبارك وتعالى أمر المؤمنين في محكم كتابه في آيات محكمة لم تنسخ أمراً صريحاً واضحاً بقتال جميع أصناف الكفار، وجعل لهذا القتال غايةً ليست هي مجرد رجوع المعتدين عن عدوانهم، ولا مجرد حماية الأرض والذب عن العرض، ولا حتى مجرد حماية الدعوة والدعاة، وإنما هي – بإيجاز شديد – إنهاء الكفر والشرك أو إنهاء سلطانهما، وإدخال الناس في الإسلام أو في الطاعة لسلطان دولة الإسلام؛ وهذا يعني أن الأمةَ الإسلاميةَ مفروضٌ عليها الجهادُ ابتداءً، وأن عليها أن تطلب الأمم الكافرة بالجهاد وأن تبتدئها بالقتال؛ لأن هذه الغايات من شأنها ألا تتوقف على ردود أفعال، وألا تنتظر وقوع العدوان من المستهدفين بها، من هذه هي الآيات: قول الله تعالى من سورة البقرة: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ وقوله في سورة الأنفال: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ (الأنفال 39-40) فقد أمر الله عباده المؤمنين في هاتين الآيتين بقتال الكافرين إلى غاية هي: ألا تكون فتنة، وأن يكون الدين لله، ومعنى ألا تكون فتنة: ألا يكون شرك أو كفر، وهذا المعنى مروي عن السلف مثل قتادة ومجاهد والسدّي وغيرهم. تفسير الطبري (م 2 ج 2 ص 265)
ومعنى قوله تعالى: يكون الدين لله أي يكون التوحيد خالصا لله وتكون العبادة خالصة لله، ويدخل الناس في (لا إله إلا الله)، وهذا المعنى مروي عن السلف أيضا، مثل الضحاك وقتادة وابن جريج ومحمد بن إسحاق وعبد الرحمن بن زيد بن أرقم وابن عباس وغيرهم. تفسير ابن كثير (2/298)
ومعنى قوله تعالى: (فإن انتهوا) قال الطبري: «يعني تعالى ذكره بقوله: «فإن انتهوا» فإن انتهى الذين يقاتلونكم من الكفار عن قتالكم، ودخلوا في ملتكم، وأقروا بما ألزمكم الله من فرائضه، وتركوا ما هم عليه من عبادة الأوثان، فدعوا الاعتداء عليهم وقتالهم وجهادهم، فإنه لا ينبغي أن لا يعتدي إلا على الظالمين -وهم المشركون بالله، والذين تركوا عبادته وعبدوا غير خالقهم» تفسير الطبري (م 2 ج 2 ص 266)
وما فهمه الطبري هو ما فهمه غيره من المفسرين، قال القرطبي: في معنى قوله تعالى:«فإن انتهوا»: أي: عن الكفر: إما بالإسلام أو بأداء الجزية » تفسير القرطبي (2/728) وقال الإمام البغوي: «فإن انتهوا»: عن القتال والكفر تفسير البغوي (1/214)
ومن الآيات الدالة على ما تقرر بما سلف من الآيات قول الله تعالى: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (التوبة 5) وسياق الآية يدل على أن الغاية التي ينتهي عندها القتال هي الدخول في الإسلام، فقوله عز وجل: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ﴾ معناه: «فإن تابوا عن الشرك بالإيمان وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة تصديقاً لتوبتهم وإيمانهم فخلوا سبيلهم أي فدعوهم ولا تتعرضوا لهم بشيء»، ومفهومه أنه إذا لم يتوبوا عن الشرك بالإيمان فلا ترفعوا عنهم السيف.
هذه هي الحقيقة التي لا يصح أن نجهلها أو نتجاهلها، فضلاً عن أن نستحي منها ونزفف عليها وكأنّها عورة، ليس في ديننا عورة نجتهد في مواراتها والستر عليها، فديننا هو الحق، والتمسك به نجاة، والإعراض عنه هلكة وضياع.