أن مبناها على جلب مصالح العباد في المعاش والمعاد
ذكر الله تعالى غايات لخلق الإنسان، فقال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ ﴾[1].
وقال: ﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [2]؛ أي: نختبره.
وقال ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾[3].
ولا اختلاف بين هذه الغايات – ولا أي غايات أخرى ذكرت في القرآن – لأن جُماع هذه الغايات كلها في عبادة الله، فابتلاء الإنسان وامتحانه؛ ابتلاء وامتحان بهذه العبادة، وخلافته في الأرض جزء من هذه العبادة واختلاف الناس الى فريقين فريق في الجنة وفريق في السعير هو نتيجة الابتلاء بهذه العبادة.
فالعبادة إذن هي الغاية الكبرى والأولى والحقيقة من خلق الله تعالى للإنسان ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ ﴾[4].
ولكن شاءت حكمة الله تعالى – ورحمته أيضًا – أن تتحقق هذه العبادة من خلال شريعة ربانية تتفق مع فطرة الإسلام وتكوينه، وتجلب له المصالح العاجلة والآجلة.
فإذا عبد الإنسان ربه على الشريعة التي شرعها له فسوف يتحقق له – بجانب تحقيقه لوظيفته التي خُلق لها وهي العبادة – جميع مصالحه الدنيوية والأخروية على السواء.
والآية الجامعة في هذا الباب هي قول الله تعالى ﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ [5].
فالاستجابة لأمر الله تعالى فيها الحياة في الدارين وطاعة الله تعالى فيما أمر ونهي جالبة لمصالح الدارين ودافعة لمفاسدهما. وبهذا يترتب على العبادة والطاعة مصالح العباد منة من الله وفضلاً، ورحمة منه وعدلاً.
يقول الإمام العز بن عبد السلام في كتابه قواعد الأحكام في مصالح الأنام:
(وكذلك أمرهم بتحصيل مصالح إجابته وطاعته، ودرء مصالح مفاسد معصيته ومخالفته؛ إحسانًا منه إليهم، وإنعامًا عليهم؛ لأنه غني عن طاعتهم وعبادتهم. فعرفهم ما فيه رشدهم ومصالحهم ليفعلوه؛ وما فيه غيهم ومفاسدهم ليجتنبوه، وأخبرهم أن الشيطان لهم عدو ليجتنبوه ويعادوه ويخالفوه. فرتب مصالح الدارين على طاعته واجتناب معصيته)[6].
ومن الآيات الجامعة أيضًا في هذا الباب قول الله تعالى ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين ﴾[7] فالشريعة إذن رحمة للعالمين في دنياهم وأخراهم ولولاها لحل بالعالم الخراب وساد فيه الخلل والاضطراب.
يقول الإمام ابن القيم في كتابه “أعلام الموقعين”:
“فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها.
فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل. فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلي الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها.
وهي نوره الذي أبصر المبصرون، وهداه الذي اهتدى به المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل.
فهي قرة العيون وحياة القلوب ولذة الأرواح. فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة.
وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها، وحاصل بها. وكل شر ونقص في الوجود فسببه إضاعتها. ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا وطوي العالم. وهي عصمة للناس وقوام للعالم، وبها يمسك الله السموات والأرض أن تزولا. فإذا أراد الله خراب الدنيا وطي العالم رفع إليه ما بقى من رسومها.
فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي قطب العالم وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة “[8].
وهذا كله معلوم بنصوص الشريعة، ومعلوم أيضًا باستقرائها.
ويقول الإمام الشاطبي في “الموافقات”:
(والمعتمد أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراءً لا ينازع فيه الرازي ولا غيره، فإن الله تعالي يقول في بعثه للرسل -وهو الأصل- ﴿ رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾ [9] ويقول ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾[10] [11].
وفي القرآن الكريم تلميحات وتصريحات بأن الشريعة مقصودها الخير والمصالح والرحة للعباد.
﴿ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾[12].
﴿ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾[13].
﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا ﴾.
﴿ يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً ﴾[14].
﴿ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾[15].
﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [16].
﴿ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ ﴾ [17].
﴿ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ﴾ [18].
﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ﴾ [19].
﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ [20].
﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ﴾ [21].
﴿ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ﴾ [22].
﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ﴾ [23].
﴿ يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [24].
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [25].
﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ﴾ [26].
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾[27].
إلى غير ذلك من الآيات الكريمات.
والاستقراء الفعلي للشريعة يؤكد هذه المعاني العامة الواردة بالآيات السابقة وغيرها، والتي جماعها أن الشريعة مبناها على جلب مصالح العباد في الدارين.
(فقد وجد بالاستقراء أن مصالح العباد تتعلق بأمور ضرورية أو حاجية أو تحسينية، فالأولى هي التي لا قيام للحياة بدونها وإذا فاتت حل الفساد وعمت الفوضى واختل نظام الحياة، وهذه الضروريا ت وهي: حفظ الدين والنفس والعرض والعقل والنسل والمال.
والحاجيات هي التي يحتاج إليها الناس ليعيشوا بيسر وسعة، وإذا فاتتهم لم يختل نظام الحياة ولكن يصيب الناس ضيق وحرج.
وأما التحسينيات، فهي التي تُجمِّل الحياة بمحاسن العادات ومكارم الأخلاق، وإذا فاتت لم يختل نظام الحياة ولم يصب الناس بحرج ولكن تخرج حياتهم عن النهج الأقوم.
والشريعة جاءت أحكامها لتحقيق وحفظ الضروريات والحاجيات والتحسينات وبهذا حفظت مصالحهم.
فأما الدين فقد شُرع لإيجادها النكاح وشُرع لحفظها القصاص ولزوم دفع الضرورة وغير ذلك.
واما النسل فقد شُرع لحفظه عقوبة الزنى والقذف وتحريم الإجهاض… إلخ والعقل شُرع لحفظه تحريم الخمر وتحريم الخوض فيما يلبس بمقدور له… إلخ.
والمال شُرع لتحصيله أنواع المعاملات وشُرع لحفظه حرمة أكل أموال الناس بالباطل، والحجر على السفيه… إلخ.
هذه هي الضروريات. أما الحاجيات شرعت لها الرخص عند المشقة وفي التحسينيات شُرعت الطهارة وستر العورة وأخذ الزينة عند كل مسجد والتحلي بمكارم الأخلاق ومحاسن العادات.
فاستقراء الشريعة يدل على أن الشارع ما قصد بتشريعه إلا حفظ هذه الضروريات والحاجيات والتحسينات، وهذه هي مصالحهم)[28].
وما أعظم التناسق – في باب الضروريات والحاجيات والتحسينات – بين الشريعة والطبيعة – وكلاهما من نعمة الله على الناس -! فكما أن نعمة الشريعة شملت الضروريات والحاجيات والتحسينات في حياة الناس؛ كذلك نعمة الكون والمخلوقات المسخرة للإنسان تشمل هذه الثلاثة والحاجيات والتحسينيات.
وخذ مثلاً واحدًا لذلك: النبات الذي يخرج من الأرض، نعمة كبيرة على الإنسان. فيه الضروريات وفيه الحاجيات وفيه التحسينيات فمن الضروريات ما لابد منه لحياة الإنسان كالقمحة وغيرها من القوت الضروري.
ومن الحاجيات ما يحتاج إليه الإنسان لقطع الملل وترفيه الحياة حتى لا تمل وحتى لا تشق على الناس كأنواع الفواكه. ومن التحسينيات أن هذه النباتات والأشجار تعطي بمنظرها الجميل وخضرتها الخلابة، تعطي الطبيعة حسنًا وجمالاً وتضفي على الحياة روعة وبهاءً، إكمالاً لسعادة الإنسان وبهجته.
وقس على ذلك كل ما خلق الله للإنسان.
فما أعظم التناسق بين كون الله وشريعته وفطرة خلقه إنه الإعجاز المبهر بجوار النعمة السابغة.
﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [29].
﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ [30].
[1] الذاريات 56.
[2] الإنسان 2.
[3] البقرة 30.
[4] الذاريات 56.
[5] الأنفال: 24.
[6] قواعد الأحكام، ص 3.
[7] الأنبياء 107.
[8] اعلام الموقعين عن رب العالمين ص1.
[9] النساء 165.
[10] الأنبياء 107.
[11] الموافقات ج2 س 322 طبعة دار المعرفة – بيروت.
[12] المائدة 6.
[13] النساء 26.
[14] النساء 28.
[15] البقرة 178.
[16] البقرة 179.
[17] البقرة 152.
[18] الحج 40.
[19] البقرة 193.
[20] البقرة 257.
[21] المائدة 15.
[22] الأعراف 157.
[23] الشورى 52.
[24] يونس57.
[25] النحل97.
[26] طه 123.
[27] طه 124.
[28] المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية لعبد الكريم زيدان ص 47-49 وبتصرف بسيط – وانظر كلك الموافقات ج2 ص 324 وما بعدها ط دار المعرفة.
[29] النحل 18.
[30] ابراهيم 34.