قد سبق لنا الإشارة إلى الآيات والأحاديث التي تقرر – في العموم – براءة الإسلام من الحرج والعنت وخلوه من الفرائض التي فيها مشقة بالغة على العباد. وهي شافية كافية لكل مسلم يثق بالكتاب والسنة ويسلم لهما. غير أن الإسهاب بضرب الأمثلة ضروري في هذا المقام، وذلك حتى تبلغ الحجة مبلغًا لا يدع ريبة لمستريب.
والكلام في هذا الأمر واسع يجهد من نهج الاستقراء ورام الاستقصاء، ولذا يكفي بما يفي المقصود، والله المستعان.
هذه الصلاة التي هي عبادة الإسلام الدائمة المتكررة وعمود الدين والعمل الذي يميز بين المسلم والكافر والكسب الذي يحاسب عليه العبد يوم القيامة أول ما يحاسب، على جلالتها ورفعة قدرها كما تستغرق من وقت المسلم وجهده وطاقته؟
إنها خمس صلوات فقط في اليوم والليلة، وكل صلاة من هذه الخمس أيسر من وقفة مع حديث على ناصية الطريق وأخف من عمل يعده الإنسان من هوامش الأعمال.
إن اليسر فيها أوضح من شمس الضحى، ولقد تجلت رحمة الله تعالى في تخفيفها من خمسين صلاة إلى خس صلوات مع بقاء أجر الخمسين لمن صلى الخمس.
عن أنس رضي الله عنه قال (فرضت الصلاة على النبي صلى الله علبه وسلم لبلة أسري به خمسين، ثم نقصت حتى جعلت خمسًا، ثم نودي يا محمد إنه لا يبدل القول لدي وإن لك بهذه الخمس خمسين )[1].
فأي رحمة هذه!
وأي يسر هذا!
هذا فوق ما يجده المسلم في صلاته من حلاوة المناجاة، ولذة التضرع إلى الله، واطمئنان القلب وأنس الفؤاد وتحليق الروح، حتى صارت الصلاة قرة عيون الموحدين ” وجعلت قرة عيني في الصلاة “.
هذا عن الصلاة…
أما الصيام فهو شهر واحد كل عام، لا يصومه المسلم وجوبًا إلا إذا بلغ سن الرشد، ومع ذلك يتسابق الصبيان والأطفال والصغار على صيامه؟ وهذا أبلغ دليل على يسره وسهولته، وهو دليل ظاهر محسوس بعضده ما أثبته الطب من أن الصيام له آثار صحية جيدة.
هذا الصيام السهل الهين واحد كل شهر واحد كل عام، وما وراء الشهر تطوع يتنافس المتنافسون.
وأما الزكاة التي فرضها الله تعالى على الأغنياء فهي أيسر ما يكون لولا شح النفوس. فإن الله تعالى فرض في مال الغني ربع العشر كل عام ومثله في عروض تجارته إذا بلغت النصاب، وفي زرعه نصف العشر عند الحصاد وفي السائمة أيسر من ذلك.
ولولا أن الله تعالى فرض علينا إخراج شطر أموالنا أو أكثر ما كان ظالمًا لنا فالمال ماله ونحن مستخلفون عليه. ولكن رحمة الله تعالى تتدارك المتعبين في كسب أرزاقهم المجاهدين لشح نفوسهم فإذا بالقدر الواجب إخراجه لا يُرهق مكتسبًا ولا يثقل كاهلاً.
وأما الحج فقد يصيب المسلم منه من مشقة السفر وتعب الأداء للمناسك وكلفة الذهاب والإياب.
ومع أن هذه المشقة في طوق الاحتمال وفي دائرة الوسع والطاقة إلا أن الله تعالى – تخفيفًا على عباده – ولم يفرض الحج إلا مرة واحدة في العمر كله على القادر. وما وراء ذلك تطوع يتنافس فيه المتنافسون عن أبي هريرة (قال: خطبنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال “أيها الناس: إن الله كتب عليكم الحج فحجوا” فقال الرجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا ثم قال ” لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم” ثم قال ” ذروني ما تركتم فأما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه ” [2].
وحتى تبلغ الحجة ذروتها نختم الأمثلة بفريضة الجهاد. وهي الفريضة التي لا يختلف اثنان على أنه ليس في الإسلام على الإطلاق أشق منها حيث أنها بذل للنفس والمال وتقحُّم للنصب والوصب والمشاق.
هذه الفريضة لا يرى العاجزون الخائرون منها سوى المشقة والخطر. ولكنها نظرة قاصرة. نظرة من يرى الأمور وينظر إليها من زاوية ضيقة محدودة.
ولو أننا تأنينا وتركنا العجلة التي يدفعها ذا الركون إلى الدنيا ونظرنا إلى هذه الفريضة العظيمة – التي هي ذروة سنام الإسلام نظرة فيها شمولية وواقعية لاتضح لنا أنها اليسر وأنها الخير، وأن تركها هو العسر والشر.
لابد – لكي نحيط بهذه المسألة – أن نسأل أنفسنا: لماذا فرض الله على الأمة الإسلامية جهاد الأمم الكافرة؟ وما المصالح المتوخاة من هذا الجهاد؟ وما حجم المفاسد والأضرار التي تترتب على ترك الجهاد والقعود عنه؟ وما الفرق بين الجهاد الإسلامي وحروب الناس؟
كل هذه التساؤلات لابد أن ترد ولابد أن تجد أجوبة شافية حتى يحاط بالمسألة من جميع أطرافها ويكون التفكير فيها تفكيرًا موضوعيًا منصفًا.
إن من حق الإسلام – ابتداء – أن يسود. ومن حق الأمة الإسلامية أن تجاهد الأمم الكافرة جميعًا بعد دعوتها إلى الإسلام. وهذا الحق مبررة واضح أتم الوضوح. فالأمة الإسلامية ليست أمة قومية، ودينها ليس نحلة طائفية. وإنما هي أمة ربانية اصطفاها الله تعالى وأخرجها للناس وأورثها الكتاب الذي نزل ليكون للعالمين نذيرًا.
وما دام هذا المنهج الرباني الذي استخلفت عليه هذه الأمة هو المرتضى للعالمين فإن الواجب على هذه الأمة تبلغيه للعالمين بالدعوة والبيان والجدال الحسن الذي تنزاح به العقبات المادية التي تقيمها الأنظمة الطاغونية لتحرم الناس الحرية ومن ثم تحرمها نعيم الإسلام الذي فيه صلاحها في دنياها وآخرها.
فالجهاد – إذن فرضه الله تعالى على الأمة الإسلامية لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وتعبيدهم لله تعالى بلا شريك، وإماطة الفتنة عن ظهر الأرض ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ﴾ [البقرة: 193].
وهذه المصالح المرجوة من جهاد الأمة الإسلامية لأعدائها. إلى جانب مصالح أخري في غاية الأهمية، منها حماية الدعوة إلى الإسلام، وتحصين الثغور والدفاع عن بلاد المسلمين وأغراضهم، والحد من طغيان الجاهلية التي لا تهدأ وليس من طبيعتها أن تهدأ مادام في الأرض إسلام يتحرك.
وإذا قعدت الأمة الإسلامية عن واجب الدعوة والبلاغ وحمل البشرية على منهج الله تعالى بالإرشاد والبيان ثم السيف والسنان فسوف تحرك الجاهلية وتجلب بخيلها ورجلها على البشرية – بما فيها الأمة الإسلامية – لتحملها على مناهجها ومقرراتها الأخطبوطية.
وعندما تثقل الأمة الإسلامية عن النفرة في سبيل الله عز وجل فإنها بذلك تعرى ظهرها لسهام الأعداء وتغريهم بغزوها حرماتها.
وفي الجملة ينتج عن قعود المسلمين عن هذا الواجب الأعظم ضرران بالغان.
الأول: هيمنة الفتنة على الأرض وطغيانها على دين الله.
الثاني: أن يستضيف المسلمون وتنتهك أعراضهم وتستباح حرماتهم وتمارس عليهم عمليات الإخراج عن الإسلام والزحزحة عن العروة الوثقى.
ومن هنا يمكن أن نقول:
إن الجهاد فيه مشقة ونصب وبذل للتضحيات ولكن لابد منه لحياة الأمة الإسلامية وعموم الخير للبشرية واستقامة الأمور على هذه الأرض.
وترك الجهاد ليس سبيلاً للأمن والسلامة وإنما يترتب عليه عموم الفتنة وطمس الحق وإهلاك الحرث والنسل بعد إهلاك الدين والعرض.
ولذلك قال تعالى ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ﴾[3].
وبهذا القياس الموزون بين المصالح والمفاسد يتقرر أن الجهاد الذي فرضه الله تعالى على هذه الأمة لاحرج فيه ولا ضيق، بل هو الخير والمصلحة والنجاة من الشر المستطير ولهذا قال تعالى ﴿ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78] بعد قوله تعالى ﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِه ﴾ [4] ومن يلقي نظرة عادلة فاحصة على واقع البشرية اليوم يلفت نظره أمور ثلاثة:
الأول: أن الفتنة قد عمت الأرض، متمثلة في الإعراض التام عن شريعة الله عز وجل، وموجات الإلحاد، وعواصف الانحلال الخلقي، والتردي في مهاوي المخدرات والجريمة، واستغلال العلم في الصد عن سبيل الله، والربا، وغير ذلك من الصور التي يشق عدها ويصعب حصرها.
الثاني: أن المسلمين في أغلب بقاع الأرضمستضعفون يسامون الخسف والهوان ويمارس عليهم شتى ألوان الزحزحة عن الإسلام.
والسبب الذي أفضى إلى هذا الواقع الأليم هو التولي عن الجهاد في سبيل الله عز وجل، مما يؤكد أن هذه الفريضة برغم ما فيها من مشقات هي اليسر والخير والمصلحة.
أما الأمر الثالث: فهو أن توقف الجهاد الإسلامي لم يمنع البشرية من التقاتل على الدنيا لأسباب متدنية.
بل إن توقف الجهاد الإسلامي كان سببًا رئيسيًا في تقاتل البشرية الهمجية على مطامع دنيئة ولأسباب سخيفة، وكان هذا التقاتل الخسيس شرسًا إلى أبعد الحدود ووضيعًا بكل المقاييس وخاسرًا من جميع الحيثيات.
ولاوجه للشبه بين الجهاد الإسلامي وبين حرب الناس بعضهم بعضًا قديمًا وحديثًا. لامن حيث الدوافع والغايات ولا من حيث المنهج والأسلوب ولا من حيث الآثار والنتائج المترتبة عليه.
فالجهاد اٍلاسلامي ليس قتالً من أجل مغنم أو مطمع ولا صراعًا على تدعيم نظام أو ترسيخ طاغوت، ولا تلبية لنداء قومية جاهلية أو عنصرية بهيمية أو عرقية طائشة.
وإنما الجهاد الإسلامي غايته إخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، غايته إماطة الفتنة الجاثمة على رؤوس الخلق، غايته أن تكون العبودية والدنيوية والطاعة والانقياد لله تعالى بلا شريك ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ﴾ [5].
وما دام التبليغ باللسان والبيان لايجدي مع وجود الحواجز المادية التي تقيمها الأنظمة الطاغوتية المحادة لله ورسوله فلابد من الجهاد الذي يحطم الحواجز ويكسر القيود ويتيح المعين العذب للذين منعوا منه وحبسوا عنه وراء هذه الحواجز وتحت هذه القيود.
فإذا ما تحطمت هذه الحواجز وسقطت هذه الطواغيت وسط الإسلام ظل شريعته وحاكميته فعندئذ – فقط – يقال للناس الذي دخلوا في الطاعة لدولة الإسلام وسلطان شريعة الإسلام ﴿ لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ [6]. والجهاد الإسلامي له أسلوبه الخاص ومنهجه الرحيم الذي لايمكن للبشرية في ظل حضارتها المادية العرجاء أن تبلغ شأنه البعيد أو تقارب قمته السامقة، اللهم إلا شعارات جوفاء لا رصيد لها من الواقع. هذا الأسلوب الفذ يصور أصدق تصوير حيث رسول الله تعالى عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله عز وجل ومن معه من المسلمين ثم قال ” اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفربالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولاتقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوك فأدعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهن ما أجأبوك فأقبل منهم وكف عنهم “الحديث[7].
وأخيرًا فإن الثمرة التي تجنيها البشرية من هذا الجهاد الشريف المقدس ثمرة نضجة.
إنها سعادة الدارين بإقامة حكم الإسلام وإقرار المنهج الرباني وحمل البشرية عليه حتى تخرج في ظله من العبوديات الباطلة إلى العبودية لرب العالمين جل شأنه. ولا يشك مسلم صحيح الإسلام أن الحكم الإسلامي وأن التشريع الرباني هو وحده المخرج للبشرية من حيرتها وضلالها وشقائها والمنقذ للعباد من الفساد والمخلص للإنسانية من فتنة الجاهلية. هذا إلى جانب أن الحكم الإسلامي الذي هو ثمرة الجهاد الإسلامي يضع حدا فاصلا بين الهدي والضلال فيتبين ويتضح السيلان بلا الالتباس ولا غش.
هذا هو الجهاد الإسلامي العظيم. في إمضائه مصالح الأنام وفي توقفه طغيان الطغام. ولانملك امام هذه الحقائق إلا أن نسلم بأن فريضة الجهاد هي اليسر والخير والمصلحة وأن تركها هو العسر والشر والمفسدة.
ونكتفي بهذه الأمثلة التي سقناها في اختصار وإيجاز لندلل بها على دخول جميع فرائض الإسلام في طوق الاحتمال ودائرة الوسع والطاقة وبراءتها من العنت والمشاق والمضار.
[1] رواه احمد والنسائي و الترمذي وصححه.
[2] رواه البخاري ومسلم.
[3] البقرة 216.
[4] الحج 78.
[5] البقرة 193.
[6] البقرة 256.
[7] رواه مسلم.